السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوٗاۖ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (67)

{ و } اذكر { إذ قال موسى لقومه إنّ الله يأمركم } قرأ أبو عمرو بسكون الراء .

وروي عن الدوري اختلاس الحركة ، والباقون بالحركة الكاملة ، والحركة ضمة { أن تذبحوا بقرة } أوّل هذه القصة قوله تعالى : { وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها } ( البقرة ، 72 ) وإنما فكت عنه وقدّمت عليه لاستقلاله بنوع آخر من مساويهم وهو الاستهزاء بالأمر والاستقصاء في السؤال وترك المسارعة إلى الامتثال وقصته أنه كان فيهم رجل غني وله ابن عم فقير لا وارث له سواه فلما طال عليه موته قتله ليرثه وحمله إلى قرية أخرى فألقاه ببابها ثم أصبح يطلب ديته وجاء بناس إلى موسى يدعي عليهم القتل فسألهم فجحدوا فاشتبه أمر القتيل على موسى ، قال الكلبي : وذلك قبل نزول القسامة في التوراة فسألوا موسى ليدعو الله ليبيّن لهم بدعائه فدعا فأمرهم الله تعالى بذبح بقرة ويضربوا القتيل ببعضها ليحيا فيخبر بقاتله فقال موسى : إنّ الله يأمركم أن تذبحوا بقرة .

{ قالوا أتتخذنا هزواً } أي : أتستهزئ بنا نحن نسأل عن أمر القتيل وتأمرنا بذبح بقرة ، وإنما قالوا ذلك استبعاداً لما قاله واستخفافاً به ، قرأ حمزة بسكون الزاي في الوصل وإذا وقف قال : هزواً بنصب الزاي من غير همز ، وروي عنه الإدغام ، وهو أن يشدّد الزاي ، وقرأ حفص هزواً بضم الزاي بعدها واو مفتوحة وقفاً ووصلاً والباقون بضم الزاي بعدها همزة مفتوحة .

{ قال أعوذ } أي : أمتنع { با } من { أن أكون من الجاهلين } لأنّ الهزء في مثل ذلك جهل وسفه ، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان وأخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعاً له فلما علم القوم أنّ ذبح البقرة عزم من الله استوصفوه ولو أنهم عمدوا إلى أدنى بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكنهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم وكان تحته حكمة وذلك أنه كان في بني إسرائيل رجل صالح له ابن طفل وله عجلة أتى بها إلى غيضة وقال : اللهمّ إني استودعتك هذه العجلة لابني حتى يكبر ، ومات الرجل فسارت العجلة في الغيضة عواناً وكانت تهرب من كل من رآها فلما كبر الابن كان باراً بوالدته فكان يقسم الليل أثلاثاً يصلي ثلثاً وينام ثلثاً ويجلس عند رأس أمّه ثلثاً فإذا أصبح انطلق فاحتطب على ظهره فيأتي به السوق فيبيعه بما شاء الله ثم يتصدّق بثلثه ويأكل ثلثه ويعطي والدته ثلثه فقالت له أمّه يوماً : إنّ أباك ورثك عجلة استودعها الله في غيضة كذا فانطلق وادع الله إله إبراهيم وإسماعيل وإسحق أن يردها عليك وعلامتها أنك إذا نظرت إليها يخيل لك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها ، وكانت تلك البقرة تسمى الذهبية لحسنها وصفرتها فأتى الفتى الغيضة فرآها ترعى فصاح بها وقال : أعزم عليك بإله إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب فأقبلت تسعى إليه حتى قامت بين يديه فقبض على عنقها يقودها فتكلمت البقرة بإذن الله وقالت : أيها الفتى البار بوالدته اركبني فإنّ ذلك أهون عليك ، فقال الفتى : إنّ أمي لم تأمرني بذلك ولكن قالت : خذ بعنقها ، فقالت البقرة : بإله بني إسرائيل لو ركبتني ما كنت تقدر عليّ أبداً فانطلق فإنك لو أمرت الجبل أن يتقطع من أصله وينطلق معك لفعل لبرك بأمّك ، فسار الفتى بها إلى أمّه فقالت له : إنك فقير لا مال لك ويشق عليك الاحتطاب بالنهار والقيام بالليل فانطلق فبع هذه البقرة ، فقال : بكم أبيعها ؟ قالت : بثلاثة دنانير ولا تبع بغير مشورتي وكان ثمن البقرة ثلاثة دنانير فانطلق بها إلى السوق فبعث الله ملكاً ليري خلقه قدرته وليختبر الفتى كيف بره بوالدته وكان الله به خبيراً ، فقال الملك له : بكم تبيع هذه البقرة ؟ فقال : بثلاثة دنانير وأشترط عليك رضا والدتي ، فقال الملك : لك ستة دنانير ولا تستأمر والدتك ، فقال الفتى : لو أعطيتني وزنها ذهباً لم آخذه إلا برضا أمي ، فردّها إلى أمّه وأخبرها بالثمن ، فقالت : ارجع فبعها بستة دنانير على رضا مني فانطلق بها إلى السوق وأتى الملك فقال : استأمرت أمّك ؟ فقال الفتى : إنها أمرتني أن لا أنقصها عن ستة دنانير على أن أستأمرها ، فقال الملك : إني أعطيك اثني عشر ديناراً على أن لا تستأمرها فأبى الفتى ورجع إلى أمّه وأخبرها بذلك ، فقالت : إنّ الذي يأتيك ملك في صورة آدمي ليختبرك فإذا أتاك فقل له : أتأمرنا أن نبيع هذه البقرة أم لا ؟ ففعل فقال الملك له : اذهب إلى أمّك وقل لها : امسكي هذه البقرة فإنّ موسى بن عمران يشتريها منك لقتيل يقتل في بني إسرائيل فلا تبيعوها إلا بملء مسكها أي : جلدها ذهباً دنانير فأمسكوها وقدّر الله تعالى على بني إسرائيل ذبح تلك البقرة بعينها فما زالوا يستوصفونها حتى وصف لهم تلك البقرة مكافأة له على بره بوالدته فضلاً منه تعالى ورحمة فذلك قوله عز وجل :