الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوٗاۖ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (67)

قوله تعالى : { يَأْمُرُكُمْ } . . الجمهور على ضمِّ الراء لأنه مضارعٌ مُعْرَبٌ مجرَّدٌ من ناصبٍ وجازمٍ . ورُوِيَ عن أبي عمرو سكونُها سكوناً مَحْضاً واختلاسُ الحركةِ ، وذلك لتوالي الحركات ، ولأنَّ الراءَ حرفُ تكريرٍ فكأنها حرفان ، وحركتُها حركتان ، وقيل : شبَّهها بعَضْد ، فسُكِّن أَوْسَطُه إجراءً للمنفصلِ مُجْرَى المتصلِ ، وهذا كما تَقَدَّم في قراءة " بارِئْكم " ، وقد تقدَّم ذِكْرُ من اسْتَضْعَفها من النحويين ، وتقدَّم ذكرُ الأجوبةِ عنه بما أَغْنَى عن إعادتِه هنا ، ويجوز في همز " يَأْمركم " إبدالُه ألفاً وهذا مطَّرِدٌ . و " يَأْمركم " هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ خبراً لإِنَّ ، وإنَّ وما في حَيِّزها في مَحلِّ نصب مفعولاً بالقول ، والقولُ وما في حَيِّزِه في محلِّ جرٍّ بإضافة الظرف إليه ، والظرفُ معمولٌ لفعل محذوفٍ أي : اذكُرْ .

قوله : { أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } " أَنْ " وما في حَيِّزِها مفعولٌ ثانٍ ليَأْمركم ، فموضِعُها يجوزُ أن يكونَ نصباً وإن يكونَ جرَّاً حَسْبَما مضى من ذِكْرِ الخلافِ ، لأنَّ الأصلَ على إسقاطِ حرفِ الجرّ أي : بأَنْ تَذْبَحوا ، ويجوزُ أن يُوافِقَ الخليلُ هنا على أَنَّ موضِعَها نَصبٌ لأنَّ هذا الفعلَ يجوز حذفُ الباءِ معه ، ولو لم تكنِ الباءُ في " أَنْ " نحو : أمرتُكَ الخيرَ .

والبقرةُ واحدة البَقَر ، تقعُ على الذكَرِ والأنثى نحو حَمامة ، والصفةُ تُمَيِّزُ الذكر من الأنثى ، تقول : بقرةٌ ذكرٌ وبقرةٌ أنثى ، وقيل : بقرةٌ اسمٌ للأنثى خاصةً من هذا الجِنس مقابلةً لثور ، نحو : ناقةٌ وجَمَل ، وأَتان وحمار ، وسُمِّي هذا الجنسُ بذلك لأنه يَبْقُر الأرض أي يَِشُقُّها بالحرث ، ومنه : بَقَر بطنَه ، والباقر أبو جعفر لشَقِّه العلمَ ، والجمع : بَقَر وباقِر وبَيْقُور وبَقِيرِ .

قوله : { هُزُواً } مفعول ثان ل " { أَتَتَّخِذُنَا } . وفي وقوعِ " هُزُوا " مفعولاً ثانياً ثلاثةُ أقوالٍ . أحدُها : أنه على حَذْفِ مضافٍ أي ذوي هُزْء . الثاني : أنه مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به أي مَهْزُوءاً بنا . الثالث : أنهم جُعِلوا نفس الهُزْءِ مبالغةً . وهذا أَوْلَى ، وقال الزمخشري وبدأ به : " أَتَجْعَلُنا مكانَ هُزْءٍ " وهو قريبٌ من هذا .

وفي { هُزُواً } قراءاتٌ سِتٌّ ، المشهورُ منها ثلاثٌ : هُزُؤاً بضمتين مع الهمز ، وهُزْءاً بسكونِ العينع الهمز وَصْلاً وهي قراءة حمزة رحمه الله ، فإذا وَقَفَ أبدلَها واواً ، وليس قياسَ تخفيفها ، وإنما قياسُه إلقاءُ حركتِها على الساكنِ قبلَها . وإنما اتَّبع رسمَ المصحف فإنها رُسِمَتْ فيه واواً ، ولذلك لم يُبْدلها في " جزءاً " واواً وقفاً ، لأنها لم تُرْسَمْ فيه واواً كما سيأتي عن قريب ، وقراءتُه أصلُها الضمُّ كقراءةِ الجماعةِ إلا أنه خُفِّفَ كقولِهم في عُنُق : عُنْق . وقيل : بل هي أصلٌ بنفسِها ، ليست مخففةً من ضم ، حَكَى مكي عن الأخفش عن عيسى بن عمر : " كلُّ اسمٍ ثلاثي أولُه مضمومٌ يجوزُ فيه لغتان : التثقيل والتخفيفُ " .

و " هُزُواً " بضمتين مع الواوِ وَصْلاً وَوَقْفاً وهي قراءةُ حَفْص عن عاصم ، كأنه أَبْدَلَ الهمزةَ واواً تخفيفاً ، وهو قياسٌ مطَّرد في كلِّ همزة مفتوحةٍ مضمومٍ ما قبلَها نحو جُوَن في جُؤَن ، و { السُّفَهَآءُ وَلا إِنَّهُمْ } [ البقرة : 13 ] وحكمُ " كُفُواً " في قوله تعالى : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 4 ] حكمُ " هُزُواً " في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً . و " هُزَاً " بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها وهو أيضاً قياسٌ مطرد ، وهُزْواً بسكون العين مع الواو ، وهُزَّاً بتشديد الزاي من غيرِ همزةٍ ، ويُرْوَى عن أبي جعفر ، وتقدَّم معنى الهُزْء أول السورة .

قوله : { أَعُوذُ بِاللَّهِ } تقدَّم إعرابُه في الاستعاذَةِ ، وهذا جوابٌ لاستفهامِهم في المعنى كأنه قال : لا أَهْزَأُ مستعيذاً باللهِ من ذلك فإنَّ الهازِئَ جاهِلٌ . وقوله { أَنْ أَكُونَ } أي : مِن أَنْ أكونَ ، فيجيءُ فيه الخلافُ المعروف . و " مِن الجاهلين " خبرُها ، وهو أَبْلَغُ من قولِك : " أن أكونَ جاهِلاً ، فإنَّ المعنى : أن أنتظمَ في سلكِ قَوْمٍ اتَّصفوا بالجهل .