الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوٗاۖ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (67)

قوله تعالى :{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " إن الله يأمركم " حكي عن أبي عمرو أنه قرأ " يأمركم " بالسكون ، وحذف الضمة من الراء لثقلها . قال أبو العباس المبرد : لا يجوز هذا لأن الراء حرف الإعراب ، وإنما الصحيح عن أبي عمرو انه كان يختلس الحركة . " أن تذبحوا " في موضع نصب ب " يأمركم " أي بأن تذبحوا . " بقره " نصب " تذبحوا " . وقد تقدم{[852]} معنى الذبح فلا معنى لإعادته .

الثانية : قوله تعالى : " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " مقدم في التلاوة وقوله " قتلتم نفسا " مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة . ويجوز أن يكون قوله : " قتلتم " في النزول مقدما ، والأمر بالذبح مؤخرا . ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع في أمر القتل ، فأمروا أن يضربوه ببعضها ، ويكون " وإذ قتلتم " مقدما في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا ، لأن الواو لا توجب الترتيب . ونظيره في التنزيل في قصة نوج بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله : " حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا أحمل فيها من كل زوجين اثنين " إلى قوله " إلا قليل{[853]} " [ هود : 40 ] . فذكر إهلاك من هلك منهم ، ثم عطف عليه بقوله : " وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها " [ هود : 41 ] . فذكر الركوب متأخرا في الخطاب ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك . وكذلك قوله تعالى : " الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما{[854]} " [ هود : 19 ] . وتقديره : أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا ، ومثله في القرآن كثير .

الثالثة : لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم ، والنحر أولى في الإبل ، والتخير في البقر . وقيل : الذبح أولى ، لأنه الذي ذكره الله ، ولقرب المنحر من المذبح . قال ابن المنذر : لا أعلم أحدا حرم أكل ما نحر مما يذبح ، أو ذبح مما ينحر . وكره مالك ذلك . وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه . وسيأتي في سورة " المائدة " أحكام الذبح والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى : " إلا ما ذكيتم " [ المائدة : 3 ] مستوفى{[855]} إن شاء الله تعالى . قال الماوردي : وإنما أمروا - والله أعلم - بذبح بقرة دون غيرها ؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته . وهذا المعنى علة في ذبح البقرة ، وليس بعلة في جواب السائل ، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها .

الرابعة : قوله تعالى : " بقرة " البقرة اسم للأنثى ، والثور اسم للذكر مثل ناقة وجمل وامرأة ورجل . وقيل : البقرة واحد البقر ، الأنثى والذكر سواء . واصله من قولك : بقر بطنه ، أي شقه ، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره . ومنه الباقر لأبى جعفر محمد بن علي زين العابدين ، لأنه بقر العلم وعرف أصله ، أي شقه . والبقيرة : ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمين . وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد ( فبقر الأرض ) . قال شمر : بقر نظر موضع الماء ، فرأى الماء تحت الأرض . قال الأزهري : البقر اسم للجنس وجمعه{[856]} باقر . ابن عرفة : يقال بقير وباقر وبيقور . وقرأ عكرمة وابن يعمر " إن الباقر " . والثور : واحد الثيران . والثور : السيد من الرجال . والثور القطعة من الأقط . والثور : الطحلب . وثور : الجبل . وثور : قبيلة من العرب . وفي الحديث : ( ووقت العشاء ما لم يغب ثور الشفق ) يعني انتشاره ، يقال : ثار يثور ثورا وثورانا إذا انتشر في الأفق وفي الحديث : ( من أراد العلم فليثور القرآن ) . قال شمر : تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به .

قوله تعالى : " قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال ، لهم : " إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة " [ البقرة : 67 ] وذلك أنهم وجدوا قتيلا بين أظهرهم قيل : اسمه عاميل واشتبه أمر قاتله عليهم ، ووقع بينهم خلاف ، فقالوا : نقتتل ورسول الله بين أظهرنا ، فأتوه وسألوه البيان - وذلك قبل نزول القسامة{[857]} في التوراة ، فسألوا موسى أن يدعو الله فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة ، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهره جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده ، قالوا : أتتخذنا هزؤا ؟ والهزء : اللعب والسخرية ، وقد تقدم{[858]} .

وقرأ الجحدري " أيتخذنا " بالياء ، أي قال ذلك بعضهم لبعض فأجابهم موسى عليه السلام بقوله : " أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين " [ البقرة : 67 ] لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل ، فاستعاذ منه عليه السلام ، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء . والجهل نقيض العلم . فاستعاذ من الجهل ، كما جهلوا في قولهم : أتتخذنا هزؤا ، لمن يخبرهم عن الله تعالى ، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله . ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته ، وقال : إن الله يأمرك بكذا : أتتخذنا هزؤا ؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى لوجب تكفيره . وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلظ الطبع والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين : إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله . وكما قال له الآخر : اعدل يا محمد وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل ، وأنه مفسد للدين .

قوله تعالى : " هزوا " مفعول ثان ، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة . وجعلها حفص واوا مفتوحة ، لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل ، كقوله : " السفهاء ولكن " . ويجوز حذف الضمة من الزاي كما تحذفها من عضد ، فتقول : هزؤا ، كما قرأ أهل الكوفة ، وكذلك " ولم يكن له كفؤا أحد " . وحكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان : التخفيف والتثقيل ، نحو العسر واليسر والهزء .

ومثله ما كان من الجمع على فعل ككتب وكتب ، ورسل ورسل ، وعون وعون . وأما قوله تعالى : " وجعلوا له من عباده جزءا " [ الزخرف : 15 ] فليس مثل هزء وكفء ؛ لأنه على فعل ، من الأصل . على ما يأتي في موضعه{[859]} إن شاء الله تعالى .

مسألة : في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه ، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد . وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده . قال ابن خويز منداد : وقد بلغنا أن رجلا تقدم إلى عبيد الله بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيدالله فقال : جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش ؟ فقال له : لا تجهل أيها القاضي فقال له عبيدالله : وابن وجدت المزاج جهلا فتلا عليه هذه الآية ، فأعرض عنه عبيدالله ؛ لأنه رآه جاهلا لا يعرف المزح من الاستهزاء ، وليس أحدهما من الآخر بسبيل .


[852]:راجع المسألة العاشرة ص 385 من هذا الجزء.
[853]:راجع ج 9 ص 33.
[854]:راجع ج 10 ص 346
[855]:راجع ج 6 ص 54.
[856]:في لسان العرب: "فأما بقر وباقر وبقير وباقور باقورة فأسماء للجميع.
[857]:سيتكلم المؤلف رحمه الله على القسامة وحكمها عند قوله تعالى: {فقلنا اضربوه ببعضها" راجع ص 457 من هذا الجزء.
[858]:راجع ص 207.
[859]:راجع ج 16 ص 69.