البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦٓ إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُكُمۡ أَن تَذۡبَحُواْ بَقَرَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوٗاۖ قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنۡ أَكُونَ مِنَ ٱلۡجَٰهِلِينَ} (67)

البقرة : الأنثى من هذا الحيوان المعروف ، وقد يقع على الذكر .

والباقر والبقير والبيقور والباقور ، قالوا : وإنما سميت بقرة لأنها تبقر الأرض ، أي تشقها للحرث ، ومنه سمي محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : الباقر .

وكان هو وأخوه زيد بن علي من العلماء الفصحاء .

العياذ والمعاذ : الاعتصام .

الفعل منه : عاذ يعوذ .

الجهل : معروف ، والفعل منه : جهل يجهل ، قيل : وقد جمع على أجهال ، وهو شاذ .

قال الشنفري :

ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا أرى *** سؤولاً بأطراف الأقاويل أنمل

ويحتمل أن يكون جمع جاهل ، كأصحاب : جمع صاحب .

{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } الآية .

وجد قتيل في بني إسرائيل اسمه عاميل ، ولم يدروا قاتله ، واختلفوا فيه وفي سبب قتله .

فقال عطاء والسدّي : كان القاتل ابن عم المقتول ، وكان مسكيناً ، والمقتول كثير المال .

وقيل : كان أخاه ، وقيل : ابن أخيه ، ولا وارث له غيره ، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه .

وقال عطاء أيضاً : كان تحت عاميل بنت عم لا مثل لها في بني إسرائيل في الحسن والجمال ، فقتله لينكحها .

وطوّل المفسرون في هذه الحكاية بما يوقف عليه في كتبهم .

والذي سأل موسى البيان هو القاتل ، قاله أبو العالية .

وقال غيره : بل اجتمع القوم فسألوا موسى ، ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تقدم ذكر مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم في أكثر أنبائهم ، فناسب ذلك ذكر هذه الآية لما تضمنت من المراجعة والتعنت والعناد مرة بعد مرّة .

وقوله : { وإذ قال } معطوف على قوله : { وإذ أخذنا ميثاقكم } وقوم موسى أتباعه وأشياعه .

وقرأ الجمهور : يأمركم ، بضم الراء ، وعن أبي عمرو : والسكون والاختلاس وإبدال الهمزة ألفاً ، وقد تقدم توجيه ذلك عند الكلام على بارئكم ويأمركم بصيغة المضارع ، فيحتمل أن يراد به الحال ، ويحتمل أن يراد به الماضي إن كان الأمر بذبح البقرة بما أنزل الله في التوراة ، أو بما أخبر موسى ، وأن تذبحوا في موضع المفعول الثاني ليأمر ، وهو على إسقاط الحرف ، أي بأن تذبحوا .

ولحذف هنا مسوّغان : أحدهما : أنه يجوز فيه ، إذا كان المفعول متأثراً بحرف الجر ، أن يحذف الحرف ، كما قال :

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به***

والثاني : كونه مع إن ، وهو يجوز معها حذف حرف الجر إذا لم يلبس .

ودلالة الكلام على أن المأمور به أن تذبحوا بقرة ، فأي بقرة كانت لو ذبحوها لكان يقع الامتثال .

وقد روى الحسن مرفوعاً ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكن شددوا فشدّد الله عليهم » وإنما اختص البقر من سائر الحيوانات لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله ، فاختبروا بذلك ، إذ هذا من الابتلاء العظيم ، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه ، أو لأنه أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارًّا بأمّه .

وقال طلحة بن مصرّف : لم تكن من بقر الدنيا ، بل نزلت من السماء .

وقال بعض أهل العلم : البقر سيد الحيوانات الأنسية .

وقرأ : { أتتخدنا } ؟ الجمهور : بالتاء ، على أن الضمير هو لموسى .

وقرأ عاصم الجحدري وابن محيصن بالياء ، على أن الضمير لله تعالى ، وهو استفهام على سبيل الإنكار .

{ هزواً } ، قرأ حمزة ، وإسماعيل ، وخلف في اختياره ، والقزاز ، عن عبد الوارث والمفضل ، بإسكان الزاي .

وقرأ حفص : بضم الزاي والواو بدل الهمز .

وقرأ الباقون : بضم الزاي والهمزة ، وفيه ثلاث لغات التي قرئ بها ، وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله : { أتتخذنا هزواً } ، فإما أن يريد به اسم المفعول ، أي مهزوأ ، كقوله : درهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله ، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة ، أي أتتخذنا نفس الهزؤ ، وذلك لكثرة الاستهزاء ممن يكون جاهلاً ، أو على حذف مضاف ، أي مكان هزء ، أو ذوي هزء ، وإجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر الله بأن يذبحوا بقرة ، بقولهم : { أتتخذنا هزواً } دليل على سوء عقيدتهم في نبيهم وتكذيبهم له ، إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى ، لما كان جوابهم إلا امتثال الأمر ، وجوابهم هذا كفر بموسى .

وقال بعض الناس : كانوا مؤمنين مصدقين ، ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية .

والعذر لهم أنهم لما طلبوا من موسى تعيين القاتل فقال لهم : { إن الله يأمركم أن تذبحوا } ، رأوا تباين ما بين السؤال والجواب وبعده ، فتوهموا أن موسى داعبهم ، وقد لا يكون أخبرهم في ذلك الوقت بأن القتيل يضرب ببعض البقرة المذبوحة فيحيا ويخبر بمن قتله ، أو يكون أخبرهم بذلك ، فتعجبوا من إحياء ميت ببعض ميت ، فظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء .

وقيل : في الكلام محذوف تقديره : آلله أمرك أن تتخذنا هزواً ؟ وقيل : هو استفهام حقيقة ليس فيه إنكار ، وهو استفهام استرشاد لا استفهام إنكار وعناد .

{ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } ، لما فهم موسى عليه السلام عنهم أن تلك المقالة التي صدرت عنهم إنما هي لاعتقادهم فيها أنه أخبر عن الله بما لم يأمر به ، استعاذ بالله وهو الذي أخبر عنه ، أن يكون من الجاهلين بالله ، فيخبر عنه بأمر لم يأمر به تعالى ، إذ الإخبار عن الله تعالى بما لم يخبر به الله إنما يكون ذلك من الجهل بالله تعالى .

وقوله : من الجاهلين ، فيه تصريح أن ثم جاهلين ، واستعاذ بالله أن يكون منهم ، وفيه تعريض أنهم جاهلون ، وكأنه قال : أن أكون منكم ، لأنهم جوّزوا على من هو معصوم من الكذب ، وخصوصاً في التبليغ ، عن الله أن يخبر عن الله بالكذب .

قالوا : والجهل بسيط ، ومركب البسيط : عام وخاص .

العام : عدم العلم بشيء من المعلومات ، والخاص : عدم العلم ببعض المعلومات ، والمركب : أن يجهل ، ويجهل أنه يجهل .

فالعام والمركب لا يوصف بهما من له بعض علم ، فضلاً عن نبي شرف بالرسالة والتكليم ، وذلك مستحيل عليه ، فيستحيل أن يستعيذ منه إلا على سبيل الأدب .

فالذي استعاذ منه موسى هو خاص ، وهو المفضي إلى أن يخبر عن الله تعالى مستهزئاً ، أو المقابل لجهلهم .

فقالوا : أتتخذنا هزواً لمن يخبرهم عن الله ، أو معناه الاستهزاء بالمؤمنين .

فإن ذلك جهل ، أو من الجاهلين بالجواب ، لا على وفق السؤال ، إذ ذاك جهل ، والأمر من تلقاء نفسي ، وأنسبه إلى الله ، والخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء ، فإن ذلك جهل .

وهذه الوجوه الستة مستحيلة على موسى .

قيل : وإنما استعاذ منها بطريق الأدب ، كما استعاذ نوح عليه السلام { أعوذ بك أن أسئلك ما ليس لي به علم } وكما في : { وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين } ، وإنما قالوا ذلك بطريق الأدب مع الله والتواضع له .

/خ74