معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة سبإ مكية وآياتها أربع وخمسون .

قوله : { الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض } ملكاً وخلقاً ، { وله الحمد في الآخرة } كما هو له في الدنيا ، لأن النعم في الدارين كلها منه . وقيل : الحمد لله في الآخرة هو حمد أهل الجنة كما قال الله تعالى : { وقالوا الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } { الحمد لله الذي صدقنا وعده } . { وهو الحكيم الخبير* }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة سبأ مكية وآياتها أربع وخمسون

موضوعات هذه السورة المكية هي موضوعات العقيدة الرئيسية : توحيد الله ، والإيمان بالوحي ، والاعتقاد بالبعث . وإلى جوارها تصحيح بعض القيم الأساسية المتعلقة بموضوعات العقيدة الرئيسية . وبيان أن الإيمان والعمل الصالح - لا الأموال ولا الأولاد - هما قوام الحكم والجزاء عند الله . وأنه ما من قوة تعصم من بطش الله وما من شفاعة عنده إلا بإذنه .

والتركيز الأكبر في السورة على قضية البعث والجزاء ؛ وعلى إحاطة علم الله وشموله ودقته ولطفه . وتتكرر الإشارة في السورة إلى هاتين القضيتين المترابطتين بطرق منوعة ، وأساليب شتى ؛ وتظلل جو السورة كله من البدء إلى النهاية .

فعن قضية البعث يقول : ( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة . قل : بلى وربي لتأتينكم ) . .

وعن قضية الجزاء يقول : ( ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، أولئك لهم مغفرة ورزق كريم . والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز أليم ) . .

وفي موضع آخر قريب في سياق السورة : ( وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد ? أفترى على الله كذبا أم به جنة ? بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد ) .

ويورد عدة مشاهد للقيامة ، وما فيها من تأنيب للمكذبين بها ، ومن صور العذاب الذي كانوا يكذبون به ، أو يشكون في وقوعه كهذا المشهد : ( ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول . يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا : لولا أنتم لكنا مؤمنين . قال الذين استكبروا للذين استضعفوا : أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم ? بل كنتم مجرمين . وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا : بل مكر الليل والنهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً . وأسروا الندامة لما رأوا العذاب ، وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا . هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ? ) . .

وتتكرر هذه المشاهد وتتوزع في السورة وتختم بها كذلك : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب . وقالوا : آمنا به . وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ? وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل . إنهم كانوا في شك مريب .

وعن قضية العلم الإلهي الشامل يرد في مطلع السورة : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . .

ويرد تعقيباً على التكذيب بمجيء الساعة : ( قل : بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .

ويرد قرب ختام السورة : ( قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب ) . .

وفي موضوع التوحيد تبدأ السورة بالحمد لله ( الذي له ما في السماوات وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير ) . .

ويتحداهم مرات في شأن الشركاء الذين يدعونهم من دون الله : ( قل : ادعوا الذين زعمتم من دون الله ، لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، وما لهم فيهما من شرك ، وما له منهم من ظهير ) . .

وتشير الآيات إلى عبادتهم للملائكة وللجن وذلك في مشهد من مشاهد القيامة : ( ويوم يحشرهم جميعاًثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ? قالوا : سبحانك ! أنت ولينا من دونهم . بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ) .

وينفي ما كانوا يظنونه من شفاعة الملائكة لهم عند ربهم : ( ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له ، حتى إذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق وهو العلي الكبير ) . .

وبمناسبة عبادتهم للشياطين ترد قصة سليمان وتسخير الجن له ، وعجزهم عن معرفة موته : ( فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته . فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ) . .

وفي موضوع الوحي والرسالة يرد قوله : ( وقال الذين كفروا : لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه ) . . وقوله : ( وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا : ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم . وقالوا : ما هذا إلا إفك مفترى ، وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم : إن هذا إلا سحر مبين ) . .

ويرد عليهم بتقرير الوحي والرسالة : ( ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، ويهدي إلى صراط العزيز الحميد ) . . ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً . ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) . .

وفي موضوع تقرير القيم يرد قوله : ( وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها : إنا بما أرسلتم به كافرون . وقالوا : نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين . قل : إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحاً ، فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون . والذين يسعون في آياتنا معاجزين أولئك في العذاب محضرون ) . .

ويضرب على هذا أمثلة من الواقع التاريخي في هذه الأرض : قصة آل داود الشاكرين على نعمة الله . وقصة سبأ المتبطرين الذين لا يشكرون . وما وقع لهؤلاء وهؤلاء . وفيه مصداق مشهود للوعد والوعيد .

هذه القضايا التي تعالجها السور المكية في صور شتى ، تعرض في كل سورة في مجال كوني ، مصحوبة بمؤثرات منوعة ، جديدة على القلب في كل مرة . ومجال عرضها في سورة سبأ هذه هو ذلك المجال ، ممثلاً في رقعة السماوات والأرض الفسيحة ، وفي عالم الغيب المجهول المرهوب . وفي ساحة الحشر الهائلة العظيمة . وفي أعماق النفس المطوية اللطيفة . وفي صحائف التاريخ المعلومة والمجهولة ، وفي مشاهد من ذلك التاريخ عجيبة غريبة . وفي كل منها مؤثر موح للقلب البشري ، موقظ له من الغفلة والضيق والهمود .

فمنذ افتتاح السورة وهي تفتح على هذا الكون الهائل ؛ وعلى صحائفه وما فيها من آيات الله ، وعلى مجالي علمه اللطيف الشامل الدقيق الهائل : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ) . . ( وقال الذين كفروا : لا تأتينا الساعة . قل : بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ) . .

والذين يكذبون بالآخرة يتهددهم بأحداث كونية ضخمة : ( أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ? إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفاً من السماء . إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . .

والذين يعبدون من دون الله ملائكة أو جناً يقفهم وجهاً لوجه أمام الغيب المرهوب في الملأ الأعلى : ( ولاتنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له . حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم ? قالوا : الحق . وهو العلي الكبير ) . .

أو يواجههم بالملائكة في ساحة الحشر حيث لا مجال للمواربة والمجادلة : ( ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة : أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ) . . . الخ .

والمكذبون لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] الذين يتهمونه بالافتراء أو أن به جنة يقفهم أمام فطرتهم ، وأمام منطق قلوبهم بعيداً عن الغواشي والمؤثرات المصطنعة : ( قل : إنما أعظكم بواحدة . أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا . ما بصاحبكم من جنة . إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ) . .

وهكذا تطوف السورة بالقلب البشري في تلك المجالات المتنوعة ، وتواجهه بتلك المؤثرات الموحية الموقظة . حتى تنتهي بمشهد عنيف أخاذ من مشاهد القيامة كما أسلفنا . .

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في تلك المجالات وتحت تلك المؤثرات في جولات قصيرة متلاحقة متماسكة ؛ يمكن تقسيمها إلى خمسة أشواط لتيسير عرضها وشرحها . وإلا فإنه ليس بينها فواصل تحددها تحديداً دقيقاً . . وهذا هو طابع السورة الذي يميزها . .

تبدأ السورة بالحمد لله ، المالك لما في السموات والأرض المحمود في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير . وتقرر علمه الشامل الدقيق لما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها . وتحكي إنكار الذين كفروا لمجيء الساعة ورد الله عليهم بتوكيد مجيئها ، وعلم الله الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . ليتم جزاء المؤمنين وجزاء الذين يسعون في آيات الله معاجزين ، عن علم دقيق . وتثبت رأي أولي العلم الحقيقي الذين يشهدون أن ما أنزل الله لنبيه هو الحق . وتحكي عجب الذين كفروا من قضية البعث ، وترد عليهم بأنهم في العذاب والضلال البعيد ؛ وتهددهم بخسف الأرض من تحتهم أو إسقاط السماء كسفاً عليهم . .

وبذلك ينتهي الشوط الأول .

فأما الشوط الثاني فيتناول طرفاً من قصة آل داود الشاكرين لله على نعمته ، بتسخير قوى كثيرة لداود وسليمان بإذن الله . غير متبطرين ولا مستكبرين ، ومن هذه القوى المسخرة الجن الذين كان يعبدهم بعض المشركين ، ويستفتونهم في أمر الغيب . وهم لا يعلمون الغيب . وقد ظلوا يعملون لسليمان عملاً شاقاً مهيناً بعد موته وهم لا يعلمون . . . وفي مقابل قصة الشكر تجيء قصة البطر . قصة سبأ . وما كانوا فيه من نعيم لم يشكروه : ( فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق ) . . وذلك أنهم اتبعوا الشيطان ، وما كان له عليهم من سلطان ، لولا أنهم أعطوه قيادهم مختارين !

ويبدأ الشوط الثالث بتحدي المشركين أن يدعوا الذين يزعمونهم آلهة من دون الله . وهم ( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ) . . وهم لا يملكون لهم شفاعة عند الله - ولو كانوا من الملائكة - فالملائكة يتلقون أمر الله بالخشوع الراجف ؛ ولا يتحدثون حتى يزول عنهم الفزع والارتجاف العميق . . ويسألهم عمن يرزقهم من السماوات والأرض . والله مالك السماوات والأرض ، وهو الذي يرزقهم بلا شريك . . ثم يفوض أمره وأمرهم إلى الله ، وهو الذي يفصل فيما هم مختلفون . . ويختم هذا الشوط بالتحدي كما بدأه ، أن يروه الذين يلحقونهم بالله شركاء . ( كلا بل هو الله العزيز الحكيم ) . .

والشوط الرابع والشوط الخامس يعالجان معاً قضية الوحي والرسالة ، وموقفهم منها ، وموقف المترفين من كل دعوة ، واعتزازهم بأموالهم وأولادهم ؛ ويقرران القيم الحقيقية التي يكون عليها الحساب والجزاء ، وهي قيم الإيمان والعمل الصالح لا الأموال والأولاد . ويعرضان مصائر المؤمنين والمكذبين في عدة مشاهد متنوعة من مشاهد القيامة ، يتبرأ فيها التابعون من المتبوعين . كما يتبرأ فيها الملائكة من عبادة الضالين المشركين . . ويدعوهم بين هذه المشاهد إلى أن يرجعوا إلى فطرتهم يستلهمونها مجردة عن الهوى وعن الضجيج في أمر هذا الرسول الذي يندفعون في تكذيبه بلا دليل . وهو لا يطلب إليهم أجراً على الهدى ، وليس بكاذب ولا مجنون . . ويختم كل من الشوطين بمشهد من مشاهد القيامة . وتنتهي السورة بإيقاعات قصيرة قوية : قل : إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب . قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد . قل : إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إليّ ربي إنه سميع قريب . . وتختم بمشهد من مشاهد القيامة قصير الخطى قوي عنيف .

والآن نأخذ بعد هذا العرض الإجمالي في التفصيل . .

( الحمد لله ، الذي له ما في السماوات ، وما في الأرض ، وله الحمد في الآخرة ، وهو الحكيم الخبير . يعلم ما يلج في الأرض ، وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء ، وما يعرج فيها ، وهو الرحيم الغفور . . )

ابتداء السورة التي تستعرض إشراك المشركين بالله ، وتكذيبهم لرسوله ، وشكهم في الآخرة ، واستبعادهم للبعث والنشور . ابتداء بالحمد لله . والله محمود لذاته - ولو لم يقم بحمده أحد من هؤلاء البشر - وهو محمود في هذا الوجود الذي يسبح بحمده ومحمود من شتى الخلائق ولو شذ البشر عن سائر خلائق الله .

ومع الحمد صفة الملك لما في السماوات وما في الأرض ؛ فليس لأحد معه شيء ، وما لأحد في السماوات والأرض من شرك ، فله - سبحانه - كل شيء فيهما . . وهذه هي القضية الأولى في العقيدة . قضية التوحيد . والمالك لكل شيء هو الله الذي لا مالك لشيء سواه في هذا الكون العريض .

( وله الحمد في الآخرة ) . . الحمد الذاتي . والحمد المرتفع من عباده . حتى ممن كانوا يجحدونه في الدنيا ، أو يشركون معه غيره عن ضلالة ، تتكشف في الآخرة ، فيتمحض له الحمد والثناء .

( وهو الحكيم الخبير ) . . الحكيم الذي يفعل كل ما يفعل بحكمة ؛ ويصرف الدنيا والآخرة بحكمة ؛ ويدبر أمر الوجود كله بحكمة . . الخبير الذي يعلم بكل شيء ، وبكل أمر ، وبكل تدبير علماً كاملاً شاملاً عميقاً يحيط بالأمور .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { الْحَمْدُ للّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الاَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ } .

يقول تعالى ذكره : الشكر الكامل ، والحمد التامّ كله ، للمعبود الذي هو مالك جميع ما في السموات السبع ، وما في الأرَضين السبع دون كل ما يعبدونه ، ودون كل شيء سواه ، لا مالك لشيء من ذلك غيره فالمعنى : الذي هو مالك جميعه وَلهُ الحَمْدُ فِي الاَخِرَةِ يقول : وله الشكر الكامل في الاَخرة ، كالذي هو له ذلك في الدنيا العاجلة ، لأن منه النعم كلها على كل من في السموات والأرض في الدنيا ، ومنه يكون ذلك في الاَخرة ، فالحمد لله خالصا دون ما سواه في عاجل الدنيا ، وآجل الاَخرة ، لأن النعم كلها من قِبله لا يُشركه فيها أحد من دونه ، وهو الحكيم في تدبيره خلقه وصرفه إياهم في تقديره ، خبير بهم وبما يصلحهم ، وبما عملوا ، وما هم عاملون ، محيط بجميع ذلك . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَهوَ الحَكِيمُ الخَبِيرُ حكيم في أمره ، خبير بخلقه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأٓخِرَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة سبأ مكية

وآياتها أربع وخمسون

هي سورة مكية واختلف في قوله تعالى :{ ويرى الذين أوتوا العلم } [ سبأ : 6 ] الآية{[1]} فقالت فرقة هي مكية والمراد المؤمنون بالنبي صلى الله عليه وسلم وقالت فرقة هي مدنية والمراد من أسلم بالمدينة من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأشباهه{[2]} .

قوله عز وجل :

الألف واللام في { الحمد } لاستغراق الجنس ، أي { الحمد } على تنوعه هو { لله } تعالى من جميع جهات الفكرة ، ثم جاء بالصفات التي تستوجب المحامد وهي ملكه جميع ما في السماوات والأرض ، وعلمه المحيط بكل شيء وخبرته بالأشياء إذ وجودها إنما هو به جلت قدرته ورحمته بأنواع خلقه وغفرانه لمن سبق في علمه أن يغفر له من مؤمن{[9594]} .

وقوله تعالى : { وله الحمد في الآخرة } يحتمل أن تكون الألف واللام للجنس أيضاً وتكون الآية خبراً ، أي أن الحمد في الآخرة هو له وحده لإنعامه وإفضاله وتغمده وظهور قدرته وغير ذلك من صفاته ، ويحتمل أن تكون الألف واللام فيه للعهد والإشارة إلى قوله تعالى : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين }{[9595]} [ يونس : 10 ] أو إلى قوله { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده }{[9596]} [ الزمر : 74 ] .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[2]:- ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة، ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب، هذا ما لا تقبله العقول، قاله الواحدي. وقوله تعالى: (ولقد آتيناك...) هو من الآية رقم (87) من سورة الحجر.
[9594]:في بعض النسخ:"لمن سبق في علمه أن يغفر له في الآخرة".
[9595]:من الآية(10) من سورة (يونس).
[9596]:من الآية(74) من سورة(الزمر).