قوله تعالى : { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد } ، يوم القيامة يدعى كل أناس بإمامهم وينادي بعضهم بعضاً ، فينادي أصحاب الجنة أصحاب النار ، وأصحاب النار أصحاب الجنة ، وينادى أصحاب الأعراف ، وينادى بالسعادة والشقاوة ، ألا إن فلان ابن فلان سعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وفلان ابن فلان قد شقى شقاوة لا يسعد بعدها أبداً ، وينادى حين يذبح الموت : يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت . وقرأ ابن عباس و الضحاك : { يوم التناد } بتشديد الدال أي : يوم التنافر ، وذلك أنهم هربوا فندوا في الأرض كما تند الإبل إذا شردت عن أربابها . قال الضحاك : وكذلك إذا سمعوا زفير النار ندوا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قوله تعالى : { والملك على أرجائها } ( الحاقة-17 ) ، وقوله : { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا } ( الرحمن-33 ) .
ثم يطرق على قلوبهم طرقة أخرى ، وهو يذكرهم بيوم آخر من أيام الله . يوم القيامة . يوم التنادي :
( ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد . يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم . ومن يضلل الله فما له من هاد ) . .
وفي ذلك اليوم ينادي الملائكة الذين يحشرون الناس للموقف . وينادي أصحاب الأعراف على أصحاب الجنة وأصحاب النار . وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار ، وأصحاب النار أصحاب الجنة . . فالتنادي واقع في صور شتى . وتسميته ( يوم التناد )تلقي عليه ظل التصايح وتناوح الأصوات من هنا ومن هناك ، وتصور يوم زحام وخصام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَيَقَوْمِ إِنّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التّنَادِ * يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .
يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل هذا المؤمن لفرعون وقومه : وَيا قَوْمِ إنّي أخافُ عَلَيْكُمْ بقتلكم موسى إن قتلتموه عقاب الله يَوْمَ التّنادِ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : يَوْمَ التّنَادِ فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار : يَوْمَ التّنادِ بتخفيف الدال ، وترك إثبات الياء ، بمعنى التفاعل ، من تنادي القوم تناديا ، كما قال جلّ ثناؤه : وَنادَى أصحَابُ الجَنّةِ أصحَابَ النّارِ أنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبّنا حَقّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا قالُوا نَعَمْ وقال : وَنَادَى أصحَابُ النّارِ أصْحَابَ الجَنّةِ أنّ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الماءِ فلذلك تأوّله قارئو ذلك كذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاريّ ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أنه قال في هذه الاَية يَوْمَ التّنادِ قال : يوم ينادي أهل النار أهل الجنة : أن أفيضوا علينا من الماء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ويَا قَوْمِ إنّي أخافُ عَلَيْكُم يَوْمَ التّنادِ يوم ينادي أهل الجنة أهل النار أنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبّنا حَقّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا وينادي أهل النار أهل الجنة أنْ أفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ المَاءِ أوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يَوْمَ التّنادِ قال : يوم القيامة ينادي أهل الجنة أهل النار .
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى ذلك على هذه القراءة تأويل آخر على غير هذا الوجه وهو ما :
حدثنا به أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربيّ ، عن إسماعيل بن رافع المدنّي ، عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظيّ ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «يَأْمُرُ اللّهُ إسْرَافِيلَ بالنّفْخَةِ الأُولى ، فَيَقُولُ : انْفُخْ نَفْخَةَ الفَزَعِ ، فَفَزِعَ أهْلُ السّمَوَاتِ وأهْلُ الأرْضِ إلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ ، ويَأْمُرُهُ اللّهُ أنْ يُدِيمَها وَيُطَوّلَهَا فَلا يَفْتَرُ ، وَهِيَ التي يَقُولُ اللّهُ : وَما يَنْظُرُ هَولاءِ إلاّ صَيْحَةً وَاحِدَةٍ ما لَهَا مِنْ فَوَاقٍ ، فَيُسَيّرُ اللّهُ الجِبالَ فَتَكُونُ سَرَابا ، فَتُرَجّ الأرْضُ بأهْلِها رَجّا ، وَهِيَ التي يَقُولُ اللّهُ : يَوْمَ تُرْجَفُ الرّاجِفَةُ تَتْبَعُها الرّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ فَتَكُونُ كالسّفِينَةِ المُرْتَعَةِ فِي البَحْرِ تَضَرِبُها الأمْوَاجُ تَكْفأُ بأهْلِها ، أوْ كالقِنْدِيلِ المُعَلّقِ بالعَرْشِ تَرُجّهُ الأرْوَاحُ ، فَتَمِيدُ النّاسَ عَلى ظَهْرِها ، فَتَذْهَلُ المَرَاضِعُ ، وَتَضَعُ الحَوَامِلُ ، وَتَشِيبُ الوِلْدانُ ، وَتَطِيرُ الشّياطِينُ هارِبَةً حتى تأتي الأقْطارَ ، فَتَلَقّاها المَلائِكَةُ ، فَتَضْرِبُ وُجُوهَها ، فَترْجِعَ وَيُوَلي النّاسُ مُدْبِرينَ ، يُنادِي بَعْضُهُمْ بَعْضا ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ اللّهُ : يَوْمَ التّنادِ يَوْمَ تُوَلّونَ مُدْبِرينَ ما لَكُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ عاصِمِ » .
فعلى هذا التأويل معنى الكلام : ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضهم بعضا من فزع نفخة الفزع .
وقرأ ذلك آخرون : «يَوْمَ التّنادّ » بتشديد الدال ، بمعنى : التفاعل من النّدّ ، وذلك إذا هربوا فنَدّوا في الأرض ، كما تَنِدّ الإبل : إذا شَرَدَت على أربابها . ذكر من قال ذلك كذلك ، وذكر المعنى الذي قَصَد بقراءته ذلك كذلك :
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن الأجلح ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم ، قال : إذا كان يوم القيامة ، أمر الله السماء الدنيا فتشقّقت بأهلها ، ونزل من فيها من الملائكة ، فأحاطوا بالأرض ومن عليها ، ثم الثانية ، ثم الثالثة ، ثم الرابعة ، ثم الخامسة ، ثم السادسة ، ثم السابعة ، فصفوا صفا دون صف ، ثم ينزل الملك الأعلى على مجنبته اليسرى جهنم ، فإذا رآها أهل الأرض نَدّوا فلا يأتون قطرا من أقطار الأرض إلا وجدوا السبعة صفوف من الملائكة ، فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه ، فذلك قول الله : إنّي أخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التّنادِ يَوْمَ توَلّونَ مُدْبِرِين وذلك قوله : وَجاءَ رَبّكَ وَالمَلَكُ صَفّا صَفّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنّمَ ، وقوله : يا مَعْشَرَ الجِنّ والإنْس إن اسْتَطَعْتُمْ أنْ تَنْفُذُوا مِنْ أقْطارِ السّمَوَاتِ والأرْضِ فانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إلاّ بِسُلْطانٍ ، وذلك قوله : وَانْشَقّتِ السّماءُ فَهِي يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ وَالمَلَكُ على أرْجائِها .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله يَوْمَ التّنادِ قال : تَنِدّون .
ورُوِي عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك : «يَوْمَ التّنادِي » بإثبات الياء وتخفيف الدال .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قرّاء الأمصار ، وهو تخفيف الدال وبغير إثبات الياء ، وذلك أن ذلك هو القراءة التي عليها الحجة مجمعة من قرّاء الأمصار ، وغير جائز خلافها فيما جاءت به نقلاً . فإذا كان ذلك هو الصواب ، فمعنى الكلام : ويا قوم إني أخاف عليكم يوم ينادي الناس بعضُهم بعضا ، إما من هول ما قد عاينوا من عظيم سلطان الله ، وفظاعة ما غشيهم من كرب ذلك اليوم ، وإما لتذكير بعضهم بعضا إنجاز الله إياهم الوعد الذي وعدهم في الدنيا ، واستغاثة من بعضهم ببعض ، مما لقي من عظيم البلاء فيه .
وقوله : { يوم التنادي } معناه ينادي قوم قوماً ويناديهم الآخرون . واختلف المتأولون في { التنادي } المشار إليه ، فقال قتادة : هو نداء أهل الجنة أهل النار
{ فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً }{[9990]} ، ونداء أهل النار لهم : { أفيضوا علينا من الماء }{[9991]} . وقالت فرقة : بل هو النداء الذي يتضمنه قوله تعالى : { يوم ندعو كل أناس بإمامهم }{[9992]} . وقال ابن عباس وغيره : هو التنادي الذي يكون بالناس عند النفخ في الصور نفخة الفزع في الدنيا وأنهم يفرون على وجوههم للفزع الذي نالهم وينادي بعضهم بعضاً ، وروي هذا التأويل عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم{[9993]} .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل أن يكون المراد التذكير بكل نداء في القيامة فيه مشقة على الكفار والعصاة ، ولها أجوبة بنداء وهي كثيرة منها ما ذكرناه ، ومنها «يا أهل النار خلود لا موت » ، ومنها «يا أهل الجنة خلود لا موت » ، ومنها نداء أهل الغدرات والنداء { لمقت الله }{[9994]} ، والنداء { لمن الملك اليوم }{[9995]} إلى غير ذلك .
وقرأت فرقة : «التنادْ » بسكون الدال في الوصل ، وهذا على إجرائهم الوصل مجرى الوقف في غير ما موضع ، وقرأ نافع وابن كثير : «التنادي » بالياء في الوصل والوقف وهذا على الأصل . وقرأ الباقون «التناد » بغير يا فيهما ، وروي ذلك عن نافع وابن كثير ، وحذفت الياء مع الألف واللام حملاً على حذفها مع معاقبها وهو التنوين . وقال سيبويه : حذفت الياء تخفيفاً . وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو صالح والكلبي : «التنادّ » بشد الدال ، وهذا معنى آخر ليس من النداء ، بل هو من ند البعير إذا هرب{[9996]} ، وبهذا المعنى فسر ابن عباس والسدي هذه الآية ، وروت هذه الفرقة في هذا المعنى حديثاً أن الله تعالى إذا طوى السماوات نزلت ملائكة كل سماء فكانت صفاً بعد صف مستديرة بالأرض التي عليها الناس للحساب ، فإذا رأى العالم هو القيامة وأخرجت جهنم عنقها إلى أصحابها فر الكفار وندوا مدبرين إلى كل جهة فتردهم الملائكة إلى المحشر خاسئين لا عاصم لهم{[9997]} ، قالت هذه الفرقة ، ومصداق هذا الحديث في كتاب الله تعالى قوله : { والملك على أرجائها }{[9998]} وقوله تعالى : { وجاء ربك والملك صفاً صفاً }{[9999]} وقوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا ، لا تنفذون إلا بسلطان }{[10000]} .