معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

قوله تعالى : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } . أي واظبوا وداوموا على الصلوات المكتوبات بمواقيتها ، وحدودها وإتمام أركانها ، ثم خص من بينها الصلاة الوسطى بالمحافظة عليها ، دلالة على فضلها ، و " وسطى " تأنيث " الأوسط " ، ووسط الشيء : خيره وأعدله واختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم في الصلاة الوسطى فقال قوم : هي صلاة الفجر ، وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس ومعاذ وجابر ، وبه قال عطاء وعكرمة ومجاهد ، وإليه مال مالك والشافعي ، لأن الله تعالى قال : ( وقوموا لله قانتين ) والقنوت طول القيام ، وصلاة الصبح مخصوصة بطول القيام ، وبالقنوت لأن الله تعالى خصها في آية أخرى من بين الصلاة فقال الله تعالى : ( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً ) ، يعني تشهدها ملائكة الليل ، وملائكة النهار ، فهي مكتوبة في ديوان الليل وديوان النهار ، ولأنها بين صلاتي جمع ، وهي لا تقصر ولا تجمع إلى غيرها . وذهب قوم إلى أنها صلاة الظهر ، وهو قول زيد بن ثابت ، وأبي سعيد الخدري وأسامة ابن زيد ، لأنها وسط النهار وهي أوسط صلاة النهار في الطول .

أخبرنا عمر بن عبد العزيز ، أخبرنا أبو القاسم بن جعفر الهاشمي ، أنا أبو علي اللؤلؤي ، أنا أبو داود أنا محمد بن المثنى ، أنا محمد بن جعفر ، أنا شعبة حدثني عمرو بن أبي حكيم قال : سمعت الزبير يحدث عن عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منها ، فنزلت : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) .

وذهب الأكثرون إلى أنها صلاة العصر ، رواه جماعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول علي وعبد الله بن مسعود وأبي أيوب وأبي هريرة وعائشة رضوان الله عليهم وبه قال إبراهيم النخعي وقتادة والحسن .

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك بن زيد بن أسلم ، عن القعقاع بن حكيم ، عن أبي يونس مولى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما أنه قال : أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذني ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) فلما بلغتها آذنتها فأملت علي : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر وقوموا لله قانتين ) قالت عائشة رضي الله عنها : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن حفصة مثل ذلك . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنا أبو جعفر الرياني ، أنا حميد بن زنجويهن أخبرنا أبو نعيم ، أنا سفيان عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن جحش قال : قلنا لعبيدة : سل علياً عن الصلاة الوسطى . فسأله قال : كنا نرى أنها صلاة الفجر حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً " .

ولأنها صلاتي نهار ، وصلاتي ليل ، وقد خصها النبي صلى الله عليه وسلم بالتغليظ . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل ، أنا مسلم بن إبراهيم أنا هشام أنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي قلابة عن أبي المليح ، قال : كنا مع بريدة في غزوة في يوم ذي غيم فقال : بكروا بصلاة العصر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله " . وقال قبيصة بن ذؤيب : هي صلاة المغرب لأنها وسط ، ليس بأقلها ولا بأكثرها ، وقال بعضهم : إنها صلاة العشاء ، ولم ينقل عن السلف فيها شيء ، وإنما ذكرها بعض المتأخرين لأنها بين صلاتي لا تقصران . وقال بعضهم هي إحدى الصلوات الخمس لا بعينها ، أبهمها الله تعالى تحريضاً للعباد على المحافظة على أداء جميعها ، كما أخفى ليلة القدر في شهر رمضان وساعة إجابة الدعوة في يوم الجمعة وأخفى الاسم الأعظم في الأسماء ليحافظوا على جميعها .

قوله تعالى : { وقوموا لله قانتين } . أي مطيعين ، قال الشعبي وعطاء وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وطاووس ، والقنوت : الطاعة ، قال الله تعالى ( أمة قانتاً لله ) أي مطيعاً . وقال الكلبي ومقاتل : لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين ، وقيل : القنوت السكوت عما لا يجوز التكلم به في الصلاة . أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، أنا أبو عيسى الترمذي أنا أحمد بن منيع أنا هشيم أنا إسماعيل بن أبي خالد عن الحارث بن سقيل عن أبي عمرو الشيباني عن زيد بن أرقم قال : كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة يكلم الرجل منا صاحبه إلى جنبه حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام .

وقال مجاهد : خاشعين ، وقال : من القنوت طول الركوع ، وغض البصر والركود وخفض الجناح ، كان العلماء إذ كان أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسياً ، وقيل : المراد من القنوت طول القيام .

أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنا أبو محمد الجراحي أنا أبو العباس المحبوبي ، أنا أبو عيسى الترمذي أنا ابن أبي عمر ، أنا سفيان بن عيينة عن أبي الزبير عن جابر قال : قيل للنبي صلى الله عليه وسلم أي الصلاة أفضل ؟ قال : " طول القنوت " . وقيل : قانتين أي داعين . دليله ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً متتابعاً يدعو على أحياء من سليم ، على رعل وذكوان وعصية " وقيل : معناه مصلين لقوله تعالى ( أمن هو قانت آناء الليل ) أي مصل .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

221

وفي هذا الجو الذي يربط القلوب بالله ، ويجعل الإحسان والمعروف في العشرة عبادة لله ، يدس حديثا عن الصلاة - أكبر عبادات الإسلام - ولم ينته بعد من هذه الأحكام . وقد بقي منها حكم المتوفى عنها زوجها وحقها في وصية تسمح لها بالبقاء في بيته والعيش من ماله ، وحكم المتاع للمطلقات بصفة عامة - يدس الحديث عن الصلاة في هذا الجو ، فيوحي بأن الطاعة لله في كل هذا عبادة كعبادة الصلاة ، ومن جنسها ، وهو إيحاء لطيف من إيحاءات القرآن . وهو يتسق مع التصور الإسلامي لغاية الوجود الإنساني في قوله تعالى : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) . واعتبار العبادة غير مقصورة على الشعائر ، بل شاملة لكل نشاط ، الاتجاه فيه إلى الله ، والغاية منه طاعة الله :

( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين . فإن خفتم فرجالا أو ركبانا . فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ) . .

والأمر هنا بالمحافظة على الصلوات ، يعني إقامتها في أوقاتها ، وإقامتها صحيحة الأركان ، مستوفية الشرائط . أما الصلاة الوسطى فالأرجح من مجموع الروايات أنها صلاة العصر لقوله [ ص ] يوم الأحزاب :

" شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر . ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا " . . وتخصيصها بالذكر ربما لأن وقتها يجيء بعد نومة القيلولة ، وقد تفوت المصلي . .

والأمر بالقنوت ، الأرجح أنه يعني الخشوع لله والتفرغ لذكره في الصلاة . وقد كانوا يتكلمون في أثناء الصلاة فيما يعرض لهم من حاجات عاجلة . حتى نزلت هذه الآية فعلموا منها أن لا شغل في الصلاة بغير ذكر الله والخشوع له والتجرد لذكره .