البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

{ حافظوا على الصلوات } قالوا : هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها ، والمطلقات ، وهي متقدّمة عليهنّ في النزول ، متأخرة في التلاوة ورسم المصحف ، وشبهوها بقوله : { إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } وبقوله : { وإذ قتلتم نفساً } قالوا : فيجوز أن تكون مسوقة على الآيات التي ذكر فيها القتال ، لأنه بين فيها أحوال الصلاة في حال الخوف ، قالوا : وجاء ما هو متعلق بأبعد من هذا ، زعموا أن قوله تعالى : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } رداً لقوله : { وقالوا لن يدخل الجنة إلاَّ من كان هوداً أو نصارى } قالوا : وأبعد منه : { سأل سائل بعذاب واقع } راجع إلى قوله : { وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك } الآية قالوا : أو يجوز أن يكون حدث خوف قبل إنزال إتمام أحكام المطلقات ، فبين تعالى أحكام صلاة الخوف عند مسيس الحاجة إلى بيانه ، ثم أنزل إتمام أحكام المطلقات .

قالوا : ويجوز أن تكون متقدمة في التلاوة ورسم المصحف ، متأخرة في النزول قبل هذه الآيات ، على قوله بعد هذه الآية : { وقاتلوا في سبيل الله } وهذه كلها أقوال كما ترى .

والذي يظهر في المناسبة أنه تعالى ، لما ذكر تعالى جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات ، وأحكامهم في النكاح والوطء ، والإيلاء والطلاق ، والرجعة ، والإرضاع والنفقة والكسوة ، والعدد والخطبة ، والمتعة والصداق والتشطر ، وغير ذلك ، كانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل ، بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال ، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت ، ويبلغ منه الجهد ، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق ، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلاَّ لمن وفقه الله تعالى ، أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة بين الله وبين عبده ، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين ، فلأن يؤمر بأداء حقوق الله أولى وأحق ، ولذلك جاء : «فدين الله أحق أن يقضى » فكأنه قيل : لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهنّ عن أداء ما فرض الله عليكم ، فمع تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة ، حتى في حالة الخوف ، فلا بد من أدائها رجالاً وركباناً ، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة الاشتغال بالنساء ، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جداً لا بد معها من الصلاة ، فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء .

وقيل : مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فيكون ذلك عوناً لهم على امتثالها ، وصوناً لهم عن مخالفتها ، وقيل : وجه ارتباطها بما قبلها وبما بعدها ، أنه لما أمر تعالى بالمحافظة على حقوق الخلق بقوله : { ولا تنسوا الفضل بينكم } ناسب أن يأمر بالمحافظة على حقوق الحق ، ثم لما كانت حقوق الآدميين منها ما يتعلق بالحياة ، وقد ذكره ، ومنها ما يتعلق بالممات ، ذكره بعده ، في قوله : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية } الآية .

المحافظة على الشيء : المواظبة عليه ، وهو من الحفظ ، حفظ المكان حرسه ، وحفظ القرآن تذكره غائباً ، وهو راجع لمعنى الحراسة ، وحفظ فلان : غضب ، وأحفظه : أغضبه ، ومصدر : حفظ ، بمعنى غضب : الحفيظة والحفظ .

والخطاب : { يحافظوا } لجميع المؤمنين ، وهل يعم الكافرين ؟ فيه خلاف .

و : حافظوا ، من باب : طارقت النعل ، ولما ضمن المعنى التكرار والمواظبة عدى بعلى ، وقد رام بعضهم أن يبقى فاعل على معناها الأكثر فيها من الاشتراك بين اثنين ، فجعل المحافظة بين العبد وبين الرب ، كأنه قيل : احفظ هذه الصلاة يحفظك الله الذي أمر بها ، ومعنى المحافظة هنا : دوام ذكرها ، أو الدوام على تعجيلها في أول أوقاتها ، أو : إكمال فروضها وسننها ، أو جميع ما تقدّم .

أقوال أربعة .

والألف واللام فيها للعهد ، وهي : الصلوات الخمس .

قالوا : وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة ، فالمراد بها الصلوات الخمس .

{ والصلاة الوسطى } الوسطى فعلى مؤنثة الأوسط ، كما قال أعرابي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :

يا أوسط الناس طرّاً في مفاخرهم***

وأكرم الناس أمَّاً برّة وأبا

وهو خيار الشيء وأعدله ، كما يقال : فلان من واسطة قومه ، أي : من أعيانهم ، وهل سميت : الوسطى ، لكونها بين شيئين من : وسط فلان يسط ، إذا كان وسطاً بين شيئين ؟ أو : من وسط قومه إذا فضلهم ؟ فيه قولان ، والذي تقتضيه العربية أن تكون الوسطى مؤنث الأوسط ، بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل ، كالبيت الذي أنشدناه : يا أوسط الناس ، وذكر أن أفعل التفضيل لا يبنى إلاَّ مما يقبل الزيادة والنقص ، وكذلك فعل التعجب ، فكل ما لا يقبل الزيادة والنقص لا يبنيان منه ألا ترى أنك لا تقول زيد أموت الناس ؟ ولا : ما أموت زيداً ؟ لأن الموت شيء لا يقبل الزيادة ولا النقص ، وإذا تقرر هذا فكون الشيء وسطاً بين شيئين لا يقبل الزيادة ولا النقص ، فلا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل ، لأنه لا تفاضل فيه ، فتعين أن تكون الوسطى بمعنى الأخير والأعدل ، لأن ذلك معنى يقبل التفاوت ، وخصت الصلاة الوسطى بالذكر ، وان كانت قد اندرجت في عموم الصلوات قبلها ، تنبيهاً على فضلها على غيرها من الصلوات ، كما نبه على فضل جبريل وميكال في تجريدهما بالذكر في قوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال } وعلى فضل من ذكر وجرد من الأنبياء بعد قوله : { وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح } الآية ، وعلى فضل النخل والرمان في قوله : { فيهما فاكهة ونخل ورمان } وقد تكلمنا على هذا النوع من الذكر في قوله : { وملائكته ورسله وجبريل وميكال }

> وكثر اختلاف العلماء ، من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم ، في المراد بالصلاة الوسطى ، ولهذا قال سعيد بن المسيب : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى هكذا ، وشبك بين أصابعه .

والذي تلخص فيه أقوال :

أحدها : أنها العصر ، قاله عليّ ، وابن مسعود ، وأبو أيوب ، وابن عمر في رواية ، وسمرة بن جندب ، وأبو هريرة ، وابن عباس في رواية عطية ، وأبو سعيد الخدري ، وعائشة في رواية ، وحفصة ، والحسن بن المسيب ، وابن جبير ، وعطاء في رواية ، وطاووس ، والضحاك ، والنخعي ، وعبيد بن حميد ، وذر بن حبيش ، وقتادة ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، والشافعي في قول ، وعبد الملك بن حبيب ، من أصحاب مالك ، وهو اختيار الحافظ أبي بكر بن العربي في كتابه المسمى ( بالقبس في شرح موطأ مالك بن أنس ) واختيار أبي محمد بن عطية في تفسيره ، وقد استفاض من الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب : « شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً » وقال عليّ : كنا نراها الصبح حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فعرفنا أنها العصر .

وروى أبو مالك الاشعري ، وسمرة بن جندب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الصلاة الوسطى صلاة العصر ، وفي مصحف عائشة ، وإملاء حفصة ؛ والصلاة الوسطى وهي العصر ، ومن روى : وصلاة العصر ، أول على أنه عطف إحدى الصفتين على الأخرى .

وقرأ أبيّ ، وابن عباس ، وعبيد بن عمير : والصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، على البدل .

الثاني : أنها الفجر ، روي ذلك عن عمر ، وعلي في رواية ، وأبي موسى ومعاذ ، وجابر ، وأبي أمامة ، وابن عمر .

في رواية مجاهد ، وأنس ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، وعكرمة ، وطاووس في رواية ابنه ، ومجاهد ، وعبد الله بن شدّاد ، ومالك ، والشافعي في قول : وقد قال أبو العالية : صليت مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الغداة ، فقلت لهم : أيما الصلاة الوسطى ؟ فقالوا : التي صليت قبل .

ورووا عن أبي رجاء العطاردي قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة ، فقنت فيها قبل الركوع ، ورفع يديه ، فلما فرع قال : هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا بها أن نقوم فيها قانتين .

الثالث : أنها الظهر ، روي ذلك عن ابن عمر ، وزيد ، وأسامة ، وأبي سعيد ، وعائشة .

وفي رواية قالوا : وروى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الهاجرة والناس في هاجرتهم ، فلم يجتمع إليه أحد فتكلم في ذلك .

فانزل الله تعالى : { والصلاة الوسطى } يريد الظهر ، وقد روي أنه لا يكون وراءه إلاَّ الصف والصفان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

« لقد هممت أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم » فنزلت هذه الآية : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } .

الرابع : أنها المغرب ، روي ذلك عن ابن عباس ، وقبيصة بن ذؤيب .

الخامس : أنها العشاء الآخرة ، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في تفسيره ، وحكاه أبو عمر بن عبد البر عن فرقة .

السادس : أنها الصلوات الخمس ، قاله معاذ بن جبل .

السابع : أنها احدى الصلوات الخمس ، لا بعينها .

وبه قال : سعيد بن المسيب ، وأبو بكر الوراق ، وأخفاها ليحافظ على الصلوات كلها ، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان ، واسم الله الأعظم في سائر الأسماء ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، وقد رواه نافع عن ابن عمر ، وقاله الربيع بن خيثم ، وقد روي أنه نزلت : والصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ثم نسخت فنزلت : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } فيلزم من هذا نسخ تعيينها ، وأبهمت بعد أن عينت .

قال القرطبي المفسر : وهو الصحيح إن شاء الله لتعارض الأدلة وعدم الترجيح ، فلم يبق إلاَّ المحافظة على جميعها وأدائها .

الثامن : أنها الجمعة ، وفي سائر الأيام الظهر .

روي ذلك عن علي ، ذكره ابن حبيب .

التاسع : أنها العتمة والصبح ، قاله عمر وعثمان .

العاشر : أنها الصبح والعصر معاً ، قاله أبو بكر الأبهري من فقهاء المالكية .

ورجح كل قول من الأقوال التي عينت فيها : أن الوسطى هي كذا ، بأحاديث وردت في فضل تلك الصلاة ، ورُجح بعضها بأنها وسط بين كذا وكذا ، ولا حجة في شيء من ذلك ، لأن ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنا التي أراد الله بقوله : { والصلاة الوسطى } ولأن كونها وسطاً بين كذا وكذا لا يصلح أن يبنى منه أفعل التفضيل ، كما بيناه قبل .

وقد صنف شيخنا الإمام المحدّث ، أوحد زمانه وحافظ أوانه ، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن العفيف شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي كتاباً في هذا المعنى سماه ( كتاب كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى ) قرأناه عليه ، ورجح فيه أنها صلاة العصر ، وأن ذلك مروي نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روى ذلك عنه : عليّ بن أبي طالب ، واستفاض ذلك عنه ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب ، وعبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة .

وذكر فيه بقية الأقاويل العشرة التي سردناها ، وزاد سبعة أقاويل :

أحدها : أنها الجمعة خاصة .

الثاني : أنها الجماعة في جميع الصلوات .

الثالث : أنها صلاة الخوف .

الرابع : أنها الوتر ، واختاره أبو الحسن عليّ بن محمد السخاوي النحوي المقري .

الخامس : أنها صلاة عيد الأضحى .

السادس : أنها صلاة العيد يوم الفطر .

السابع : أنها صلاة الضحى ، حكاه بعضهم وتردد فيه .

فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولاً ، والذي ينبغي أن نعوّل عليه منها هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو : أنها صلاة العصر ، وبه قال شيخنا الحافظ أبو محمد ، رحمه الله ، أخبرنا المسند أبو بكر محمد بن أبي الطاهر اسماعيل بن عبد المحسن الدمشقي ، بقراءتي عليه بالقاهرة من ديار مصر ، حرسها الله ، عن أبي الحسن المؤيد بن محمد بن علي الطوسي المقري ، قال : أخبرنا فقيه الحرم : أبو عبد الله محمد بن الفضل بن أحمد الصاعدي ، قال : أخبرنا أبو الحسن عبد الغفار بن محمد بن عبد الغفار الفارسي ( ح ) .

وأخبرنا أستاذنا العلامة أبو جعفر ، أحمد بن ابراهيم بن الزبير بالثقفي ، بقراءتي عليه بغرناطة ، من جزيرة الاندلس ، قال : أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى الفارقي ، قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن عبيد الله الحجري ، قال : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز بن زغيبة المشاور ، قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث ( ح ) .

وأخبرنا القاضي أبو علي الحسين بن عبد العزيز بن أبي الأحوص ، مناولة عن أبي القاسم أحمد بن عمر بن أحمد الخزرجي ، وهو آخر من حدّث عنه ، ولم يحدّثنا عنه من شيوخنا غيره ، عن أبي الحسن علي بن عبد الله بن موهب الجذامي ، وهو آخر من حدّث عنه عن أبي العباس بن دلهاث ، قال : أخبرنا أبو العباس أحمد بن الحسن بن مندار بمكة قالا ، أعني عبد الغفار ، وابن مندار : أخبرنا أبو أحمد محمد بن عيسى بن عمرويه الجلودي ، قال : أخبرنا أبو اسحاق ابراهيم بن محمد بن سفيان الفقيه ، أخبرنا الحافظ أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري ، قال : وحدّثنا عون بن سلام الكوفي ، حدّثنا محمد بن طلحة اليامي ، عن زبيد ، عن مرة ، عن عبد الله ، قال : حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس ، أو اصفرّت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً » ، أو : « حشا الله أجوافهم وقبورهم ناراً » .

وقرأ عبد الله ، وعلي : { الصلاة الوسطى } باعادة الجار على سبيل التوكيد ، وقرأت عائشة : والصلاة ، بالنصب ، ووجه الزمخشري على أنه نصب على المدح والاختصاص ، ويحتمل أن يراعى موضع : على الصلاة ، لأنه نصب كما تقول : مررت بزيد وعمرا ، وروي عن قالون أنه قرأ : الوسطى ، بالصاد أبدلت السين صاداً لمجاورة الطاء ، وقد تقدّم الكلام على هذا في قوله : الصراط .

{ وقوموا لله قانتين } أي : مطيعين قاله الشعبي ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، وابن جبير ، والضحاك ، والحسن .

أو : خاشعين ، قاله مجاهد ، أو : مطيلين القيام ، قاله ابن عمر ، والربيع .

أو : داعين ، قاله ابن عباس ، أو : ساكتين ، قاله السدّي ، أو : عابدين ، أو : مصلين ، أو : قارئين ، روي هذا عن ابن عمر ، أو : ذاكرين الله في القيام ، قاله الزمخشري أو : راكدين كافي الأيدي والأبصار ، قاله مجاهد ، وهو الذي عبر عنه قبل بالخشوع .

والأظهر حمله على السكوت ، إذ صح أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة ، حتى نزلت : { وقوموا لله قانتين } فأمروا بالسكوت .

والمعنى : وقوموا في الصلاة .

وروي أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمدّ بصره ، أو يلتفت ، أو يقلب الحصا ، أو يحدّث نفسه بشيء من أمور الدنيا ، وإذا كان القنوت في الآية هو السكوت على ما جاء في الحديث ، فأجمعوا على أنه : لو تكلم عامداً وهو يعلم أنه في الصلاة ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته ، فسدت صلاته إلاَّ ما روي عن الأوزاعي : أن الكلام لإحياء نفس ، أو مثل ذلك من الأمور الجسام ، لا يفسد الصلاة .

أو : ساهياً ، فقال مالك والشافعي : لا تفسد ، وعن مالك في بعض صور الكلام خلاف بينه وبين أصحابه ، وقال أبو حنيفة ، والثوري : تفسد كالعمد ، لإصلاح صلاة كان أو لغيره ، وهو قول النخعي ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وحماد بن أبي سليمان .

واختلف قول أحمد فنقل الخرقي كقول أبي حنيفة ، ونقل الأثرم عنه : إن تكلم لإصلاحها لم تفسد ، أو لغيره فسدت ، وهذا قول مالك .

وفي قوله : { وقوموا لله قانتين } دليل على مطلوبية القيام ، وأجمعوا على أن القيام في صلاة الفرض واجب على كل صحيح قادر عليه ، كان منفرداً أو إماماً ؟ واختلفوا في المأموم الصحيح يصلي خلف إمام مريض قاعداً ولا يستطيع القيام ، فأجاز ذلك جمهور العلماء : جابر بن زيد ، والأوزاعي ، ومالك ، وأحمد ، واسحاق ، وأبو أيوب ، وسليمان بن داود الهاشمي ، وأبو خيثمة ، وابن أبي شيبة ، ومحمد بن اسماعيل ، ومن تبعهم من أصحاب الحديث مثل : محمد بن نصر ، ومحمد بن اسحاق بن خزيمة : فيصلي وراءه جالساً على مذهب هؤلاء ، وأفتى به من الصحابة : جابر ، وأبو هريرة ، وأسيد بن حضير ، وقيس بن فهر .

وروى هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنس ، وعائشة ، وأبو هريرة ، وجابر ، وابن عمر ، وأبو أمامة الباهلي .

وأجازت طائفة صلاة القائم خلف صلاة المريض قاعداً ، وإلى هذا ذهب : الشافعي ، وداود ، وزفر ، وجماعة بالمدينة ، وهي رواية الوليد بن مسلم عن مالك وهي رواية غريبة عنه .

والمشهور عن مالك أنه لا يؤم أحد جالساً ، فإن فعل بطلت صلاته وصلاتهم إلا إن كان عليلاً ، فتصح صلاته وتفسد صلاتهم ، وإلى هذا ذهب محمد بن الحسن ، قال أبو حاتم محمد بن حبان البستي : وأول من أبطل صلاة المأموم قاعداً إذا صلى إمامه جالساً المغيرة بن مقسم صاحب النخعي ، وأخذ عنه حماد بن أبي سليمان ، ثم أخذ عن حماد أبو حنيفة ، وتبعه عليه من بعده من أصحابه .

/خ242