محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

ولما كانت الحقوق المشروعة قبل ، مما قد يشق القيام على بعض الناس ، أمروا بما يخفف عنهم عبئها ويحبب إليهم أداءها . وذلك بالمحافظة على الصلوات فإنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولذا أمر بها تعالى إثر ما تقدم بقوله سبحانه : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين 238 } .

{ حافظوا على الصلوات } أي : داوموا على أدائها لأوقاتها مع رعاية فرائضها وسننها من غير إخلال بشيء منها { والصلاة الوسطى } أي : الوسطى بين الصلوات بمعنى المتوسطة أو الفضلى منها ، من قولهم للأفضل : الأوسط . فعلى الأول : يكون الأمر لصلاة متوسطة بين صلاتين . وهل هي الصبح أو الظهر أو العصر أو المغرب أو العشاء ، أقوال مأثورة عن الصحابة والتابعين . وعلى الثاني : فهي صلاة الفطر أو الأضحى أو الجماعة أو صلاة الخوف أو الجمعة أو المتوسطة بين الطول والقصر . أقوال أيضا عن كثير من الأعلام . والقول الأخير جيد جدًّا كما لو قيل بأنها ذات الخشوع لآية : { والذين هم في صلاتهم خاشعون } .

وأما علماء الأثر فقد ذهبوا إلى أن المعني بالآية صلاة العصر لما في ( الصحيحين ) {[1348]} عن علي رضي الله عنه ؛ ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب ( وفي رواية يوم الخندق ) : ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ) . وفي رواية : ( شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ) . وذكر نحوه وزاد في أخرى : ( ثم صلاّها بين المغرب والعشاء ) . أخرجاه في ( الصحيحين ) ورواه أصحاب ( السنن ) ( والمسانيد ) ( والصحاح ) من طرق يطول ذكرها .

وأجاب عن هذا الاستدلال من ذهب إلى غيره بأنه لم يرد الحديث مورد تفسير الآية حتى يعيّنها . وإنما فيه الإخبار عن كونها وسطى ، وهو كذلك لأنها متوسطة وفضلى من الصلوات .

/ وما رواه مسلم{[1349]} عن أبي يونس مولى عائشة قال : ( أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت : إذا بلغت هذه الآية فآذنِّي { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } . قال : فلما بلغتها آذنتها ، فأملت عليّ : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين . قالت عائشة : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ) . وروى ابن جرير عن حفصة نحو ذلك . قال نافع : ( فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه الواو ) . وكذا روى ابن جرير عن ابن عباس وعبيد بن عمير ، أنهما قرآ كذلك .

فهذا من عائشة رضي الله عنها إعلام بالمراد من الوسطى عندها . ضمّت التأويل إلى أصل التنزيل لأمن اللبس فيه . لأن القرآن متواتر مأمون أن يزاد فيه أو ينقص . وكان في أول العهد بنسخه ربما ضمّ بعض الصحابة تفسيرا إليه ، أو حرفا يقرؤه . ولذا لما خشي عثمان رضي الله عنه أن يرتاب في كونه من التنزيل مع أنه ليس منه أمر بأن تجرد المصاحف في عهده مما زيد فيها من التأويل وحروف القراءات التي انفرد بها بعض الصحب ، وأن يقتصر على المتواتر تنزيله وتلقّيه من النبي صلى الله عليه وسلم .

قال القاضي أبو بكر في ( الانتصار ) : لم يقصد عثمان قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين . وإنما قصد جمعهم على القراءات الثانية المعروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإلغاء ما ليس كذلك ، وأخذهم بمصحف لا تقديم فيه ولا تأخير ، ولا تأويل أُثْبِتَ مع تنزيل ، ولا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه ومفروض قراءته وحفظه ، خشية دخول الفساد والشبهة على من يأتي بعد . . .

هذا وقد أيد علماء الأثر ما ذهبوا إليه من أنها صلاة العصر بأنها خصت بمزيد التأكيد والأمر بالمحافظة عليها ، والتغليظ لمن ضيّعها . فقد قال أبو المليح : ( كنا مع بريدة في غزوة . فقال في يوم ذي غيم : بكّروا بصلاة العصر فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من ترك صلاة العصر فقد / حبط عمله ) . أخرجه البخاري{[1350]} . وقوله : بكروا بصلاة العصر ، أي قدّموها في أول وقتها .

وروى الشيخان{[1351]} عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله . . ! ) أي : نقص وسلب أهله وماله فبقي فردا ، فاقدهما . والمعنى : ليكن حذره من فوت صلاة العصر كحذره من ذهاب أهله وماله .

وقد ساق الحافظ عبد المؤمن الدمياطيّ في كتابه ( كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى ) ما امتازت به صلاة العصر من الخصائص والفضائل ، قال عليه الرحمة :

فمنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غلّظ المصيبة في فواتها بذهاب الأهل والمال في الحديث المتقدم .

ومنها ؛ حبوط عمل تاركها المضيّع لها في الحديث السالف أيضا .

ومنها ؛ أنها كانت أحب إليهم من أنفسهم وآبائهم وأبنائهم وأهليهم وأموالهم !

ومنها ؛ قوله صلى الله عليه وسلم : ( من حافظ عليها كان له أجرها مرتين ) . رواه مسلم .

ومنها ؛ ( أن انتظارها بعد الجمعة كعمرة ) رواه أبو يعلى . وروى الحاكم : ( كمن أتى بحجة وعمرة ) .

ومنها ؛ قوله صلى الله عليه وسلم{[1352]} : ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم / ولهم عذاب أليم . . . إلى أن قال ورجل أقام سلعة بعد العصر فحلف بالله أنه أخذها بكذا وكذا . فجاء رجل فصدقه فاشتراها ) . متفق عليه . ثم قال : قلت وقد عظم الله الأيمان التي يحلف بها العباد فيما شجر بينهم بعدها فقال : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله } {[1353]} . قال عامة المفسرين : بعد صلاة العصر . ولذلك غلّظ العلماء اللعان وسائر الأيمان المغلظة بوقت صلاة العصر لشرفه ومزيته .

ومنها ؛ أن سليمان عليه السلام أتلف مالا عظيما من الخيل لما شغله عرضها عن صلاة العصر إلى أن غابت الشمس . فمدحه الله تعالى بذلك وأثنى عليه بقوله تعالى : { نعم العبد إنه أوّاب . إذ عرض عليه بالعشيّ . . . } {[1354]} الآية .

ومنها ؛ أن{[1355]} الساعة التي في يوم الجمعة قد قيل : إنها بعد العصر .

ومنها ؛ أن وقتها وقت ارتفاع الأعمال .

/ ومنها ؛ الحديث المرفوع : ( إن الله تعالى يوحي إلى المَلَكين : لا تكتبا على عبدي الصائم بعد العصر سيئة ) .

ومنها ؛ ما جاء في قوله تعالى : { والعصر إن الإنسان لفي خسر } {[1356]} . قال مقاتل : العصر هي الصلاة الوسطى أقسم بها حكاه ابن عطية .

ومنها ؛ ما روي في الحديث ، ( أن الملائكة تصفّ كل يوم بعد العصر بكتبها في السماء الدنيا فينادي الملك : ألق تلك الصحيفة . فيقول : وعزّتك ما كتبت إلا ما عمل . فيقول الله عز وجل : لم يرد به وجهي . وينادي الملك الآخر : اكتب لفلان كذا وكذا ، فيقول الملك : وعزّتك إنه لم يعمل ذلك . فيقول الله عز وجل : إنه نواه ) .

ومنها ؛ أن وقتها وقت اشتغال الناس بتجارتهم ومعايشهم في الغالب .

وقد أُفرد الكلام على تفسير هذه الآية بمؤلفات . وذكر العلاّمة الفاسي شارح ( القاموس ) فيما نقله عنه الزبيديّ ، أن الأقوال فيها أنافت على الأربعين . فرضي الله عن العلماء المجتهدين وأرضاهم .

سنح لي {[1357]} وقوي بعد تمعّن في أواخر رمضان سنة 1323 احتمال قوله تعالى : { والصلاة الوسطى } بعد قوله : { حافظوا على الصلوات } لأن يكون إرشادا وأمرا بالمحافظة على أداء الصلاة أداء متوسطا . لا طويلا مملا ولا قصيرا مخلا . أي : والصلاة المتوسطة بين الطول والقصر . ويؤيده الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك ، قولا وفعلا .

ثم مر بي في ( القاموس ) في 23 ربيع الأول سنة 1324 حكاية هذا قولا . حيث ساق في مادة ( و س ط ) الأقوال في الآية ، ومنها قوله ( أو المتوسطة بين الطول والقصر ) ؛ قال شارحه الزبيديّ : وهذا القول ردّه أبو حيّان في ( البحر ) .

/ ثم سنح لي{[1358]} احتمال وجه آخر : وهو أن يكون قوله : { والصلاة الوسطى } أريد به توصيف الصلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنها فضلى ، أي : ذات فضل عظيم عند الله . فالوسطى بمعنى الفضلى من قولهم للأفضل : الأوسط . وتوسيط ( الواو ) بين الصفة والموصوف مما حققه الزمخشري واستدلّ له بكثير من الآيات . وفي سوق الصفة بهذا الأسلوب ، من الاعتناء بالموصوف ما لا يخفى . وأسلوب القرآن أسلوب خاص انفرد به في باب البلاغة ، لم ينفتح من أبواب عجائبه إلا قطرة من بحر . ولعل هذا الوجه هو ملحظ من قال : هي الصلوات الخمس ، وهو معاذ بن جبل رضي الله عنه ، فكأنه أشار إلى أن المعطوف عَيْنُ المعطوف عليه . إلا أنه أتى بجملة تفيد التوصيف .

وقوله تعالى : { وقوموا لله } في الصلاة { قانتين } خاشعين ساكتين . روى الشيخان{[1359]} عن زيد بن أرقم : ( إن كنا لنتكلم في الصلاة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . يكلم أحدنا صاحبه بحاجته . حتى نزلت { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ) . هذا لفظ البخاري . ولفظ مسلم : عن زيد بن أرقم قال{[1360]} : ( كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام ) .

وروى أبو يعلى عن ابن مسعود قال : ( كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة ، فمررت برسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّمت عليه ، فلم يرد عليّ ، فوقع في نفسي إنه نزل فيّ شيء ، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال : وعليك السلام أيها المسلّم ورحمة الله ، إن الله يحدث في أمره ما يشاء ، فإذا كنتم في الصلاة فاقنتوا ولا تتكلموا ) .

/ وروى الطبرانيّ في ( الأوسط ) والإمام أحمد{[1361]} وأبو يعلى الموصلي في ( مسنديهما ) وابن حبّان في ( صحيحه ) عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل حرف ذكر من ( القنوت ) في القرآن فهو الطاعة .


[1348]:أخرجه البخاري في: 56 ـ كتاب الجهاد، 98 ـ باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة. ومسلم في: 5 ـ كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث 202 (طبعتنا).
[1349]:أخرجه مسلم في: 5 ـ كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث 207 (طبعتنا).
[1350]:أخرجه البخاري في: 9 ـ كتاب المواقيت، 15 ـ باب من ترك العصر، حديث 357.
[1351]:أخرجه البخاري في: 9 ـ كتاب مواقيت الصلاة، 14 ـ باب إثم من فاتته العصر، حديث 356. ومسلم في: 5 ـ كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث 200 و201 (طبعتنا).
[1352]:أخرجه البخاري في: 42 ـ كتاب الشرب والمساقاة، 5 ـ باب إثم من منع ابن السبيل من الماء، حديث 1178. ومسلم في: 1 ـ كتاب الإيمان، حديث 173 و174 (طبعتنا).
[1353]:[5/ المائدة/ 106] ونصها: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصيّة اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان باللّه إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذا لمن الآثمين 106}.
[1354]:[38/ ص/ 30 ـ 34] ونصها: {ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أوّاب 30 * إذ عرض عليه بالعشيّ الصّافنات الجياد 31 * فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب 32 * ردّوها عليّ فطفق مسحا بالسوق والأعناق 34}.
[1355]:أخرجه البخاري في: 11 – كتاب الجمعة، 37 – باب الساعة التي في يوم الجمعة، عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده، يقللها).
[1356]:[103/ العصر/ 1].
[1357]:نقلت هذه السانحة من دفتر للواردات والسوانح العلمية للمؤلف رحمه الله تعالى.
[1358]:نقلت هذه السانحة من دفتر للواردات والسوانح العلمية للمؤلف رحمه الله تعالى.
[1359]:أخرجه البخاري في: 21 ـ كتاب العمل في الصلاة، 2 ـ باب ما ينهى عنه من الكلام في الصلاة، حديث 651. ومسلم في: 5 ـ كتاب المساجد ومواضع الصلاة، حديث 35 (طبعتنا).
[1360]:انظر الحاشية رقم 3 ص: 580.
[1361]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده بالصفحة 75 من الجزء الثلث (طبعة الحلبيّ).