الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{حَٰفِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وَٱلصَّلَوٰةِ ٱلۡوُسۡطَىٰ وَقُومُواْ لِلَّهِ قَٰنِتِينَ} (238)

{ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } أي واظبوا وداوموا على الصلوات المكتوبات بمواقيتها وحدودها وركوعها وسجودها وقيامها وقعودها وجميع ما يجب فيها من حقوقها ، وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة فالمراد بها الصلوات الخمس ، ثم خصّ الصلاة الوسطى من بينها بالمحافظة دلالة على فضلها كقوله تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وهما من جملة الملائكة ، وقوله : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] أخرجهما بالذكر من الجملة بالواو الدالة على التخصيص والتفصيل ، فكذلك قوله : { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } .

وقرأت عائشة { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } بالنصب على الإغراء ، وروى قالون عن نافع { الْوُسْطَى } بالصاد لمجاورة الطاء لأنهما من جنس واحد ، وهما لغتان كالصراط والسراط ، والصدغ والسدغ ، والبصاق والبساق ، واللصوق واللسوق ، والصندوق والسندوق ، والصقر والسقر .

والوسطى تأنيث الأوسط ، ووسط الشيء خيره وأعدله لأن خير الأمور أوسطها ، قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } أي خياراً وعدلا ، وقال تعالى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } [ القلم : 28 ] أي خيرهم وأفضلهم ، وقال أعرابي يمدح النبي صلى الله عليه وسلم :

يا أوسط الناس طرّاً في مفاخرهم *** وأكرم الناس أُمّاً برّة وأبا

واختلف العلماء في الوسطى وأي صلاة هي ، فقال سعيد بن المسيب : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هكذا في الاختلاف ، وشبّك من أصابعه ، فقال قوم : هي صلاة الفجر ، وهو قول معاذ وعمر وابن عباس وابن عمر وجابر بن عبد الله وعطاء وعكرمة والربيع ومجاهد وعبد الله بن شداد بن الهاد ، وعن موسى بن وهب قال : سمعت أبا أمامة وقد سئل عن الصلاة الوسطى قال : لا أحسبها إلاّ صلاة الصبح . معمر بن طاوس عن أبيه وإسماعيل بن شروس عن عكرمة قالا : هي الصبح يعني الصلاة الوسطى ، وهو اختيار الإمام أبي عبد الله الشافعي ، يدلّ عليه ما روى الربيع عن أبي العالية أنه صلّى مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة ، فلمّا أن فرغوا قال : قلت لهم : أيّتهنّ الصلاة الوسطى ؟ قالوا : التي صلّيتها ، قيل : ولأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار .

وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هي صلاة الصبح ، وسّطت فكانت بين الليل والنهار ، يصلّى في سواد من الليل وبياض من النهار ، وهي أكبر الصلوات تفوت الناس ، ولأنها لا تقصر ولا تجمع إلى غيرها ، ولأنها بين صلاتين تجمعان ، وتصديق هذا التأويل من التنزيل دالا على التخصيص والتفضيل قوله تعالى { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] يعني تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، مكتوب في ديوان الليل وديوان النهار ، ودليل آخر من سياق الآية وهو أنه عقبها بقوله { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } يعني وقوموا لله فيها قانتين ، قالوا : ولا صلاة مكتوبة فيها قنوت سوى صلاة الفجر فعلم أنها هي ، وفيه دليل على ثبوت القنوت .

وقال أبو رجاء العطاردي : صلّى بنا ابن عباس في مسجد البصرة صلاة الغداة ، فقنت بنا قبل الركوع ورفع يديه ، فلمّا فرغ قال : هذه الصلاة الوسطى التي أُمرنا أن نقوم فيها قانتين ، والدليل عليه ما روى حنظلة عن أنس قال : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً وقال : ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت في صلاة الغداة حتى فارق الدنيا .

ابن أبي ليلى عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال : قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، وأبو بكر حتى مات ، وعمر حتى مات ، وعثمان حتى مات ، وعلي حتى مات ، وقال آخرون : هي صلاة الظهر وهو قول زيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وعائشة .

روى عروة عن زيد بن ثابت " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه فلا يكون وراءه إلاّ الصف والصفّان ، وأكثر الناس يكونون في قائلتهم وفي تجاراتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم " فنزلت هذه الآية { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } ودليلهم أنها وسط النهار ما روى أبو ذر عن علي كرم الله وجهه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنّ الله في السماء الدنيا حلفة تزول منها الشمس ، فإذا مالت الشمس سبّح كل شيء لربّنا ، وأمر الله تعالى بالصلاة في تلك الساعة ، وهي الساعة التي تفتح فيها أبواب السماء فلا تغلق حتى يصلّى الظهر ، ويستجاب فيها الدعاء " .

ولأنها أوسط صلوات النهار ، ومن خصائصها أنها أول صلاة فرضت ، وأول صلاة توجّه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الكعبة ، وهي التي ترفع جميع الصلوات والجماعات [ لأجلها ] يوم الجمعة .

وقال بعضهم : هي صلاة العصر ، وهو قول علي وعبد الله وأبي هريرة والنخعي وزرّ بن حبيش وقتادة وأبي أيوب والضحّاك والكلبي ومقاتل ، واختيار أبي حنيفة ، يدلّ عليه ما روى الحسن عن سمرة بن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صلاة الوسطى العصر " .

وفي بعض الأخبار هي التي فرّط فيها سليمان عليه السلام . سفيان بن عيينة عن البراء بن عازب قال : نزلت { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ } وصلاة العصر فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله ثم ( سنحتها ) { حَافِظُوا عَلَى الصلاتِ وَالصلاةِ الْوُسْطَى } فقال له بعضهم : فهي صلاة العصر ، قال : أعلمتك كيف نزلت وكيف نسختها ، والله أعلم .

نافع عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت لكاتب مصحفها : إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى أخبرك بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمّا أخبرها قالت : اكتب إني سمعت رسول الله يقول { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } صلاة العصر .

هشام عن عروة عن أبيه قال كان في مصحف عائشة { حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } صلاة العصر { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } وهكذا كان يقرأها أبي بن كعب وعبيد بن عمير .

الأعمش عن مسلم عن شتير بن شكل عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله بيوتهم أو قبورهم نارا " .

قال ثم صلاّها بين العشاءين ، وفي بعض الأخبار أن رجلا قال في مجلس عبد العزيز بن مروان : " أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسأله عن الصلاة الوسطى ، فأخذ اصبعي الصغيرة فقال : " هذه الفجر " ، وقبض التي تليها وقال : " هذه الظهر " ، ثم قبض الإبهام فقال : " هذه المغرب " ، ثم قبض التي تليها فقال : " هذه العشاء " ، ثم قال : " أي أصابعك بقيت ؟ " فقلت : الوسطى ، فقال : " أي الصلاة بقيت ؟ " قلت : العصر ، قال : هي العصر " .

قالوا : ولأنها بين صلاتي نهار وصلاتي ليل ، ( وكان ) النبي صلى الله عليه وسلم متسامحاً فأخذ يصلّيها ويبالغ ، وروى أبو تميم الحبشاني عن أبي بصرة الغفاري قال : " صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ، فلمّا انصرف قال : " إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم ؛ فتوانوا فيها وتركوها ؛ فمن صلاّها منكم وحافظ عليها أوتي أجرها مرّتين ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد " والشاهد : النجم " .

أبو قلابة عن أبي المهاجر عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بكّروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من فاتته صلاة العصر حبط عمله " .

نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الذي يصلّي العصر كافاه في أهله وماله " .

وقال قبيصة بن ذؤيب : هي صلاة المغرب ، ألا ترى أنها واسطة ليست بأقلها ولا أكثرها وهي لا تقصر في السفر ومن وتر النهار .

هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أفضل الصلوات صلاة المغرب ، لم يحطها الله عن مسافر ولا مقيم ، فتح الله بها صلاة الليل ، وختم بها النهار ، فمن صلّى المغرب وصلّى بعدها ركعتين بنى الله له قصراً في الجنة ، ومن صلّى بعدها أربع ركعات غفر الله له ذنب عشرين سنة ، أو قال : أربعين سنة " .

وحكى الشيخ أبو ميثم سهل بن محمد عن بعضهم أنها صلاة العشاء الأخيرة ، وقال : لأنها بين صلاتين لا تقصران .

وروى عبد الرحمن بن أبي عمر عن عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صلّى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة ، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة " .

وقال بعضهم : هي إحدى الصلوات الخمس ولا نعرفها عينها ، سئل الربيع بن خيثم عن الصلاة الوسطى فقال للسائل : [ أراغب ] إن علمتها كنت محافظاً عليها ومضيّعاً سائرهن ؟ قال : لا ، قال : فإنك إنْ حافظت عليهنّ فقد حافظت عليها ، وبه قال أبو بكر الورّاق ، قال : لو شاء الله عزّ وجلّ لبيّنها ، ولكنه سبحانه أراد تنبيه الخلق على أداء الصلوات .

قال الثعلبي [ ولقد أحسنا ] في قوليهما فإن الله تعالى أخفى الصلاة الوسطى في جميع الصلوات المكتوبة ليحافظوا على جميعها رجاء الوسطى ، كما أخفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان ، واسمه الأعظم في جميع الأسماء ، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة حكمةً منه في فعله ورحمةً على خلقه .

وفي قوله عزّ وجلّ { والصَّلاَةِ الْوُسْطَى } دليل على أن الوتر ليس بواجب وذلك أن المسلمين اتفقوا على أن الصلوات المفروضات تنقص عن سبعة وتزيد على ثلاثة ، وليس من الثلاثة والسبعة فرد إلاّ خمسة ، والأزواج لا وسطى لها ، فثبت أنها خمسة .

قتادة عن أنس قال : قال رجل : " يا رسول الله ، كم افترض الله على عباده الصلوات ؟ قال : خمس صلوات ، قال : فهل قبلهنّ وبعدهنّ شيء افترض الله على عباده قال : لا ، فحلف الرجل بالله لا يزيد عليهنّ ولا ينقص ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «إن صدق الرجل دخل الجنة " .

وعن طلحة بن عبيد الله قال : " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس ، يسمع دوي صوته ولا يفهم ما يقول ، حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " خمس صلوات في اليوم والليلة " قال : هل عليّ غيرهنّ ؟ قال : " لا إلاّ أن تتطوع " قال صلى الله عليه وسلم " وصيام شهر رمضان " قال : هل عليّ غيره ؟ قال : " لا ، إلاّ أن تتطوع " وذكر له عليه الصلاة والسلام الزكاة ، قال : هل عليّ غيرها ؟ قال : " لا ، إلاّ أن تتطوع " فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفلح إن صدق " .

عن محمد بن يحيى بن حيان عن ابن جرير " أن رجلا من بني كنانة يدعى المحدجي كان يسمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد يقول : الوتر واجب ، قال المحدجي : فرحت إلى عبادة بن الصامت واعترضت له وهو رايح إلى المسجد فأخبرته بالذي قال أبو محمد ، فقال عبادة : كذب أبو محمد ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد ، من جاء بهنّ لم يضيّع منهنّ استخفافاً بحقهنّ كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهنّ فليس له عند الله عهد إن شاء عذّبه الله وإن شاء أدخله الجنة " .

وعن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) قال : " ليس الوتر بحتم لأنه لا تكبير به ولكنه سنّة سنّها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والدليل على أنّ الوتر ليس بواجب ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر على راحلته " ، وعن نافع أيضاً أن ابن عمر كان يوتر على بعيره ، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، وأجمع الفقهاء على أن الصلاة المكتوبة على الراحلة في حال الأمن لا تجوز . { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } أي مطيعين ، قاله الشعبي وعطاء وجابر بن زيد وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وطاووس وابن عباس برواية عكرمة وعطية وابن أبي طلحة ، قال الضحّاك ومقاتل والكلبي : " لكل أهل دين صلاة يقومون فيها عاصين ، فقوموا أنتم في صلواتكم لله مطيعين ، ودليل هذا التأويل ما روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل قنوت في الظهرين هو الطاعة " .

وقال بعضهم : القنوت : السكوت [ عمّا ] لا يجوز التكلم به في الصلاة ، قال زيد بن أرقم : كنّا نتكلّم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة ويكلّم أحدنا مَنْ إلى جانبه ، ويدخل الداخل فيسلّم فيردون عليه ، ويسألهم : كم صلّيتم ؟ فيردّون عليه مخبرين كم صلوا ، ويجيء خادم الرجل وهو في الصلاة فيكلّمه بحاجته كفعل أهل الكتاب ، فكنّا كذلك إلى أن نزلت { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } فأُمرنا بالسكوت ونُهينا عن الكلام .

مجاهد : خاشعين ، قال : ومن القنوت طول الركوع وغضّ البصر والركود وخفض الجناح ، كان العلماء إذا قام أحدهم يصلّي يهاب الرحمن أن يلتفت أو يقلّب الحصى أو يعبث بشيء أو يحدّث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلاّ ناسياً .

الحسن والربيع : قياماً في الصلاة ، يدلّ عليه حديث جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الصلاة أفضل ؟ فقال : طول القنوت " .

وقال ابن عباس في رواية رجاء : داعين في صلاتهم ، دليله أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت على رجل وذكر أن أي دعاء عليهم [ قد ] قيل : مصلّين دليله قوله تعالى { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ } [ الزمر : 9 ] أي مصلِّ ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " مثل المجاهد في سبيل الله كمثل القانت الصائم " أي المصلي الصائم