قوله تعالى : { يا نساء النبي لستن كأحد من النساء } قال ابن عباس : يريد ليس قدركن عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات ، أنتن أكرم علي ، وثوابكن أعظم لدي ، ولم يقل : كواحدة ، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث ، قال الله تعالى : { لا نفرق بين أحد من رسله } وقال : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } { إن اتقيتن } الله فأطعتنه ، { فلا تخضعن بالقول } لا تلن بالقول للرجال ولا ترققن الكلام ، { فيطمع الذي في قلبه مرض } أي : فجور وشهوة ، وقيل نفاق ، والمعنى : لا تقلن قولاً يجد منافق أو فاجر به سبيلاً إلى الطمع فيكن . والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع . { وقلن قولاً معروفاً } ما يوجبه الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع .
{ 32 - 34 } { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا * وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا }
يقول تعالى : { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ } خطاب لهن كلهن { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ } اللّه ، فإنكن بذلك ، تفقن النساء ، ولا يلحقكن أحد من النساء ، فكملن التقوى بجميع وسائلها ومقاصدها .
فلهذا أرشدهن إلى قطع وسائل المحرم ، فقال : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } أي : في مخاطبة الرجال ، أو بحيث يسمعون فَتَلِنَّ في ذلك ، وتتكلمن بكلام رقيق يدعو ويطمع { الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي : مرض شهوة الزنا ، فإنه مستعد ، ينظر أدنى محرك يحركه ، لأن قلبه غير صحيح [ فإن القلب الصحيح ]{[1]} ليس فيه شهوة لما حرم اللّه ، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب ، لصحة قلبه ، وسلامته من المرض .
بخلاف مريض القلب ، الذي لا يتحمل ما يتحمل الصحيح ، ولا يصبر على ما يصبر عليه ، فأدنى سبب يوجد ، يدعوه إلى الحرام ، يجيب دعوته ، ولا يتعاصى عليه ، فهذا دليل على أن الوسائل ، لها أحكام المقاصد . فإن الخضوع بالقول ، واللين فيه ، في الأصل مباح ، ولكن لما كان وسيلة إلى المحرم ، منع منه ، ولهذا ينبغي للمرأة في مخاطبة الرجال ، أن لا تلِينَ لهم القول .
ولما نهاهن عن الخضوع في القول ، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول ، دفع هذا بقوله : { وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا } أي : غير غليظ ، ولا جاف كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع .
وتأمل كيف قال : { فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ } ولم يقل : { فلا تَلِنَّ بالقول } وذلك لأن المنهي عنه ، القول اللين ، الذي فيه خضوع المرأة للرجل ، وانكسارها عنده ، والخاضع ، هو الذي يطمع فيه ، بخلاف من تكلم كلامًا لينًا ، ليس فيه خضوع ، بل ربما صار فيه ترفع وقهر للخصم ، فإن هذا ، لا يطمع فيه خصمه ، ولهذا مدح اللّه رسوله باللين ، فقال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } وقال لموسى وهارون : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى }
ودل قوله : { فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } مع أمره بحفظ الفرج وثنائه على الحافظين لفروجهم ، والحافظات ، ونهيه عن قربان الزنا ، أنه ينبغي للعبد ، إذا رأى من نفسه هذه الحالة ، وأنه يهش{[2]} لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه ، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام ، فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض .
فَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية ، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر ، وسؤال اللّه العصمة والتوفيق ، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به .
ثم خاطبهن الله تعالى بأنهن لسن كأحد من نساء عصرهن فما بعد ، بل هن أفضل بشرط التقوى لما منحهن من صحبة الرسول وعظيم المحل منه ونزول القرآن في لحفهن ، وإنما خصص لأن فيمن تقدم آسية ومريم فتأمله ، وقد أشار إلى هذا قتادة ثم نهاهن الله تعالى عما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال برخيم القول ، و { لا تخضعن } معناه ولا تلن ، وقد يكون الخضوع في القول في نفس الألفاظ ورخامتها ، وإن لم يكن المعنى مريباً ، والعرب تستعمل لفظة الخضوع بمعنى الميل في الغزل ومنه قول ليلى الأخيلية حين قال لها الحجاج : هل رأيت قط من توبة شيئاً تكرهينه ، قالت : لا والله أيها الأمير إلا أنه أنشدني يوماً شعراً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر فأنشدته : [ الطويل ]
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها . . . فليس إليها ما حييت سبيل{[9507]}
الحكاية ، وقال ابن زيد : خضوع القول ما يدخل في القلوب الغزل ، وقرأ الجمهور «فيطمعَ » بالنصب على أنه نصب بالفاء في جواب النهي ، وقرأ الأعرج وأبان بن عثمان «فيطمعِ » بالجزم وكسر للالتقاء{[9508]} ، وهذه فاء عطف محضة وكأن النهي دون جواب ظاهر ، وقراءة الجمهور أبلغ في النهي لأنها تعطي أن الخضوع سبب الطمع ، قال أبو عمرو الداني قرأ الأعرج وعيسى بن عمر «فيَطمِع » بفتح الياء وكسر الميم ، و «المرض » في هذه الآية قال قتادة هو النفاق ، وقال عكرمة الفسق والغزل وهذا أصوب ، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية ، والقول المعروف هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس .
{ يانسآء النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن }
أعيد خطابهن من جانب ربهنّ وأعيد نداؤهن للاهتمام بهذا الخبر اهتماماً يخصُّه .
وأحد : اسم بمعنى واحد مثل : { قل هو الله أحد } [ الإخلاص : 1 ] وهمزته بدل من الواو . وأصلهُ : وَحَد بوزن فَعَل ، أي متوحِّد ، كما قالوا : فَرَد بمعنى منفرد . قال النابغة يذكر ركوبه راحلته :
كان رحلي وقد زال النهار بنا *** يوم الجليل على مستأنس وَحد
يُريد على ثور وحشي منفرد . فلما ثقل الابتداء بالواو شاع أن يقولوا : أَحد ، وأكثر ما يستعمل في سياق النفي ، قال تعالى : { فما منكم من أحد عنه حاجزين } [ الحاقة : 47 ] فإذا وقع في سياق النفي دل على نفي كل واحد من الجنس .
ونفي المشابهة هُنا يراد به نفي المساواة مكنَّى به عن الأفضلية على غيرهنّ مثل نفي المساواة في قوله تعالى : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله } [ النساء : 95 ] ، فلولا قصد التفضيل ما كان لزيادة { غير أولي الضرر } وجه ولا لسبب نزولها داع كما تقدم في سورة النساء ( 95 ) . فالمعنى : أنتُنَّ أفضل النساء ، وظاهره تفضيل لجملتهن على نساء هذه الأمة ، وسبب ذلك أنهن اتصَلْنَ بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً أقرب من كل اتصال وصرن أنيساته ملازمات شؤونه فيختصصن باطلاع ما لم يطلع عليه غيرُهن من أحواله وخلقه في المنشط والمكره ، ويتخلقن بخلقه أكثر مما يقتبس منه غيرهن ، ولأن إقباله عليهن إقبالٌ خاص ، ألا ترى إلى قوله : حُبِّب إلي من دنياكم النساء والطيب ، وقال تعالى : { والطيبات للطيبين } [ النور : 26 ] . ثم إن نساء النبي عليه الصلاة والسلام يتفاضلن بينهن .
والتقييد بقوله : { إن اتقيتن } ليس لقصد الاحتراز عن ضد ذلك وإنما هو إلْهاب وتحريض على الازدياد من التقوى ، وقريب من هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة : " إن عبد الله يعني أخاها رجل صالح لو كان يَقوم من الليل " فلما أبلغت حفصة ذلك عبد اللَّه بن عمر لم يترك قيام الليل بعد ذلك لأنه علم أن المقصود التحريض على القيام .
وفعل الشرط مستعمل في الدلالة على الدوام ، أي إن دمتنّ على التقوى فإن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مُتَّقِيات من قبلُ ، وجواب الشرط دل عليه ما قبله .
واعلم أن ظاهر هذه الآية تفضيل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على جميع نساء هذه الأمة . وقد اختُلِف في التفاضل بين الزوجات وبين بنات النبي صلى الله عليه وسلم وعن الأشعري الوقف في ذلك ، ولعل ذلك لتعارض الأدلة السمعية ولاختلاف جهات أصول التفضيل الدينية والروحية بحيث يعسر ضبطها بضوابط . أشار إلى جملة منها أبو بكر بن العربي في « شرح الترمذي » في حديث رؤيا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى ميزاناً نزل من السماء فوُزن النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، فرجح النبي صلى الله عليه وسلم ووُزن أبو بكر وعُمر فرجح أبو بكر ، ووُزن عمر وعثمان فرجح عُمر ، ثم رُفع الميزان .
والجهات التي بنى عليها أبو بكر بن العربي أكثرها من شؤون الرجال . وليس يلزم أن تكون بنات النبي ولا نساؤه سواء في الفضل . ومن العلماء مَن جزموا بتفضيل بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم على أزواجه وبخاصة فاطمة رضي الله عنها وهو ظاهر كلام التفتزاني في كتاب « المقاصد » . وهي مسألة لا يترتب على تدقيقها عمل فلا ينبغي تطويل البحث فيها .
والأحسن أن يكون الوقف على { إن اتقيتن } ، وقوله { فلا تخضعن } ابتداء تفريع وليس هو جواب الشرط .
{ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض وقلن قولا معروفا }
فُرع على تفضيلهن وترفيع قدرهن إرشادُهُنّ إلى دقائق من الأخلاق قد تقع الغفلة عن مراعاتها لخفاء الشعور بآثارها ، ولأنها ذرائع خفية نادرة تفضي إلى ما لا يليق بحرمتهن في نفوس بعض ممن اشتملت عليه الأمة ، وفيها منافقوها .
وابتدىء من ذلك بالتحذير من هيئة الكلام فإن الناس متفاوتون في لينه ، والنساءُ في كلامهن رقّة طبيعية وقد يكون لبعضهن من اللطافة ولِين النفس ما إذا انضمّ إلى لينها الجبليّ قرُبت هيئته من هيئة التَدلّل لقلة اعتياد مثله إلا في تلك الحالة . فإذا بدا ذلك على بعض النساء ظَنّ بعض من يُشافِهُها من الرجال أنها تتحبّب إليه ، فربما اجترأت نفسُه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة ، بله أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي هنّ أمهات المؤمنين .
والخضوع : حقيقته التذلّل ، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل .
والباء في قوله : { بالقول } يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية ، أي لا تُخضعن القول ، أي تَجعَلْنَه خاضعاً ذليلاً ، أي رقيقاً متفكّكا . وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بيّنه المحققون من النحاة أن أصل قولك : ذهبت بزيد ، أنك ذهبتَ مصاحباً له فأنت أذهبته معك ، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو : { ذهب الله بنورهم } [ البقرة : 17 ] ، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة ، وأفيدت التعدية بالباء . ويجوز أن تكون الباء بمعنى ( في ) ، أي لا يكن منكُن لِين في القول .
والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت ، أي ليكن كلامكن جزلاً .
والمرض : حقيقته اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة ، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان في أول الإيمان من الأَعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام ، وكذلك من تخلّقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات ، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي الله عنها شاهد لذلك .
وتقدم في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } في سورة البقرة ( 10 ) .
وانتصب { يطمَع } في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع .
وحذف متعلِق { فيطمع } تنزهاً وتعظيماً لشأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم مع قيام القرينة .
وعَطْفُ { وقلن قولاً معروفاً } على { لا تَخْضَعْنَ بالقول بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار .
والمعروف : هو الذي يألفه الناس بحسب العُرففِ العام ، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام ، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهرن من يكلمهن أو يسمعنه قولاً بذيئاً من باب : فليقل خيراً أو ليصمت . وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
إنكن معشر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تنظرن إلى الوحي فأنتن أحق الناس بالتقوى {فلا تخضعن بالقول}: فلا تومين بقول يقارف الفاحشة.
{فيطمع الذي في قلبه مرض} الفجور في أمر الزنا، فزجرهن الله عز وجل عن الكلام مع الرجال وأمرهن بالعفة وضرب عليهن الحجاب.
{وقلن قولا معروفا} قولا حسنا يعرف ولا يقارف الفاحشة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا نِساءَ النّبِيّ لَسْتُنّ كأحَدٍ مِنَ النّساءِ من نساء هذه الأمة إنِ اتّقَيْتُنّ الله فأطعتنه فيما أمركنّ ونهاكنّ...
وقوله:"فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ" يقول: فلا تلنّ بالقول للرجال فيما يبتغيه أهل الفاحشة منكنّ... عن ابن عباس، قوله:"...فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ "يقول: لا ترخصن بالقول، ولا تخضعن بالكلام... قال ابن زيد، في قوله: "فَلا تَخْضَعْنَ بالقَوْلِ" قال: خضع القول ما يكره من قول النساء للرجال مما يدخل في قلوب الرجال.
وقوله: "فَيَطْمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ" يقول: فيطمع الذي في قلبه ضعف فهو لضعف إيمانه في قلبه، إما شاكّ في الإسلام منافق، فهو لذلك من أمره يستخفّ بحدود الله، وإما متهاون بإتيان الفواحش...
وقوله: "وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا" يقول: وقلن قولاً قد أذن الله لكم به وأباحه... قال ابن زيد، في قوله: "وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفا" قال: قولاً جميلاً حسنا معروفا في الخير.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
نهاهن عن التبذّل، وأمَرَهُنَّ بمراعاةِ حُرْمَةِ الرسول صلى الله عليه وسلم، والتصاون عن تَطَمُّعِ المنافقين في مُلاينتهن.
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
(وقلن قولا معروفا) أي: قولا يوجبه الدين والإسلام بصريح وبيان.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم خاطبهن الله تعالى بأنهن لسن كأحد من نساء عصرهن فما بعد.
«المرض» في هذه الآية قال قتادة هو النفاق، وقال عكرمة الفسق والغزل وهذا أصوب.
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْلُهُ: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ من النِّسَاءِ} فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ فَإِنَّهُنَّ وَإِنْ كُنَّ من الْآدَمِيَّاتِ فَلَسْنَ كَإِحْدَاهُنَّ، كَمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ كَانَ من الْبَشَرِ جِبِلَّةً، فَلَيْسَ مِنْهُمْ فَضِيلَةً وَمَنْزِلَةً، وَشَرَفُ الْمَنْزِلَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَثَرَاتِ، فَإِنَّ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ، وَتُرْفَعُ مَنْزِلَتُهُ عَلَى الْمَنَازِلِ جَدِيرٌ بِأَنْ يَرْتَفِعَ فِعْلُهُ عَلَى الْأَفْعَالِ، وَيَرْبُوَ حَالُهُ عَلَى الْأَحْوَالِ...
{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أَمَرَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُنَّ جَزْلًا، وَكَلَامُهُنَّ فَصْلًا، وَلَا يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ يُحْدِثُ فِي الْقَلْبِ عَلَاقَةً بِمَا يَظْهَرُ عَلَيْهِ من اللِّينِ الْمُطْمِعِ لِلسَّامِعِ...
قِيلَ: الْمَعْرُوفُ هُوَ السِّرُّ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ مَأْمُورَةٌ بِخَفْضِ الْكَلَامِ. وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ مَا يَعُودُ إلَى الشَّرْعِ بِمَا أُمِرْنَ فِيهِ بِالتَّبْلِيغِ، أَوْ بِالْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ لِلْبَشَرِ مِنْهَا...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} فضلهن الله على النساء... إلا أنه يخرج من هذا العموم فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون؛ لشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل واحدة منهن بأنها سيدة نساء عالمها...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
وقد وقعت منهنّ ولله الحمد التقوى البينة، والإيمان الخالص، والمشي على طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}: مرض شهوة الزنا، فإنه مستعد، ينظر أدنى محرك يحركه، لأن قلبه غير صحيح، فإن القلب الصحيح ليس فيه شهوة لما حرم اللّه، فإن ذلك لا تكاد تُمِيلُه ولا تحركه الأسباب، لصحة قلبه، وسلامته من المرض.
ولما نهاهن عن الخضوع في القول، فربما توهم أنهن مأمورات بإغلاظ القول، دفع هذا بقوله: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا} أي: غير غليظ، ولا جاف كما أنه ليس بِلَيِّنٍ خاضع.
ودل قوله: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} مع أمره بحفظ الفرج، وثنائه على الحافظين لفروجهم والحافظات، ونهيه عن قربان الزنا، أنه ينبغي للعبد، إذا رأى من نفسه هذه الحالة، وأنه يهش لفعل المحرم عندما يرى أو يسمع كلام من يهواه، ويجد دواعي طمعه قد انصرفت إلى الحرام، فَلْيَعْرِفْ أن ذلك مرض، فَلْيَجْتَهِدْ في إضعاف هذا المرض وحسم الخواطر الردية، ومجاهدة نفسه على سلامتها من هذا المرض الخطر، وسؤال اللّه العصمة والتوفيق، وأن ذلك من حفظ الفرج المأمور به.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يبين لأمهات المؤمنين اختصاصهن بما ليس لغيرهن من النساء؛ ويقرر واجباتهن في معاملة الناس، وواجبهن في عبادة الله، وواجبهن في بيوتهن؛ ويحدثهن عن رعاية الله الخاصة لهذا البيت الكريم، وحياطته وصيانته من الرجس؛ ويذكرهن بما يتلى في بيوتهن من آيات الله والحكمة، مما يلقي عليهن تبعات خاصة، ويفردهن بين نساء العالمين:
(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن. فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض، وقلن قولا معروفا. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وأقمن الصلاة وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس -أهل البيت- ويطهركم تطهيرا. واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة. إن الله كان لطيفا خبيرا)..
لقد جاء الإسلام فوجد المجتمع العربي -كغيره من المجتمعات في ذلك الحين- ينظر إلى المرأة على أنها أداة للمتاع، وإشباع الغريزة. ومن ثم ينظر إليها من الناحية الإنسانية نظرة هابطة.
كذلك وجد في المجتمع نوعا من الفوضى في العلاقات الجنسية. ووجد نظام الأسرة مخلخلا على نحو ما سبق بيانه في السورة.
هذا وذلك إلى هبوط النظرة إلى الجنس؛ وانحطاط الذوق الجمالي؛ والاحتفال بالجسديات العارمة، وعدم الالتفات إلى الجمال الرفيع الهادئ النظيف.. يبدو هذا في أشعار الجاهليين حول جسد المرأة، والتفاتاتهم إلى أغلظ المواضع فيه، وإلى أغلظ معانيه!
فلما أن جاء الإسلام أخذ يرفع من نظرة المجتمع إلى المرأة؛ ويؤكد الجانب الإنساني في علاقات الجنسين؛ فليست هي مجرد إشباع لجوعة الجسد، وإطفاء لفورة اللحم والدم، إنما هي اتصال بين كائنين إنسانيين من نفس واحدة، بينهما مودة ورحمة، وفي اتصالهما سكن وراحة؛ ولهذا الاتصال هدف مرتبط بإرادة الله في خلق الإنسان، وعمارة الأرض، وخلافة هذا الإنسان فيها بسنة الله.
كذلك أخذ يعنى بروابط الأسرة؛ ويتخذ منها قاعدة للتنظيم الاجتماعي؛ ويعدها المحضن الذي تنشأ فيه الأجيال وتدرج؛ ويوفر الضمانات لحماية هذا المحضن وصيانته، ولتطهيره كذلك من كل ما يلوث جوه من المشاعر والتصورات.
والتشريع للأسرة يشغل جانبا كبيرا من تشريعات الإسلام، وحيزا ملحوظا من آيات القرآن. وإلى جوار التشريع كان التوجيه المستمر إلى تقوية هذه القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها المجتمع؛ وبخاصة فيما يتعلق بالتطهر الروحي، وبالنظافة في علاقات الجنسين، وصيانتها من كل تبذل، وتصفيتها من عرامة الشهوة، حتى في العلاقات الجسدية المحضة.
وفي هذه السورة يشغل التنظيم الاجتماعي وشؤون الأسرة حيزا كبيرا. وفي هذه الآيات التي نحن بصددها حديث إلى نساء النبي [صلى الله عليه وسلم] وتوجيه لهن في علاقتهن بالناس، وفي خاصة أنفسهن، وفي علاقتهن بالله. توجيه يقول لهن الله فيه: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس -أهل البيت- ويطهركم تطهيرا).
فلننظر في وسائل إذهاب الرجس، ووسائل التطهر، التي يحدثهن الله -سبحانه- عنها، ويأخذهن بها. وهن أهل البيت، وزوجات النبي [صلى الله عليه وسلم] وأطهر من عرفت الأرض من النساء. ومن عداهن من النساء أحوج إلى هذه الوسائل ممن عشن في كنف رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وبيته الرفيع.
إنه يبدأ بإشعار نفوسهن بعظيم مكانهن، ورفيع مقامهن، وفضلهن على النساء كافة، وتفردهن بذلك المكان بين نساء العالمين. على أن يوفين هذا المكان حقه، ويقمن فيه بما يقتضيه:
(يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن)..
(لستن كأحد من النساء إن اتقيتن).. فأنتن في مكان لا يشارككن فيه أحد، ولا تشاركن فيه أحدا. ولكن ذلك إنما يكون بالتقوى. فليست المسألة مجرد قرابة من النبي [صلى الله عليه وسلم] بل لا بد من القيام بحق هذه القرابة في ذات أنفسكن.
وذلك هو الحق الصارم الحاسم الذي يقوم عليه هذا الدين؛ والذي يقرره رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وهو ينادي أهله ألا يغرهم مكانهم من قرابته، فإنه لا يملك لهم من الله شيئا:"يا فاطمة ابنة محمد. يا صفية ابنة عبد المطلب. يا بني عبد المطلب. لا أملك لكم من الله شيئا. سلوني من مالي ما شئتم".
وفي رواية أخرى: "يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار. فإني والله لا أملك لكم من الله شيئا، إلا أن لكم رحما سأبلها ببلالها".
وبعد أن يبين لهن منزلتهن التي ينلنها بحقها، وهو التقوى، يأخذ في بيان الوسائل التي يريد الله أن يذهب بها الرجس عن أهل البيت ويطهرهم تطهيرا:
(فلا تخضعن بالقول، فيطمع الذي في قلبه مرض)..
ينهاهن حين يخاطبن الأغراب من الرجال أن يكون في نبراتهن ذلك الخضوع اللين الذي يثير شهوات الرجال، ويحرك غرائزهم، ويطمع مرضى القلوب ويهيج رغائبهم!
ومن هن اللواتي يحذرهن الله هذا التحذير؛ إنهن أزواج النبي [صلى الله عليه وسلم] وأمهات المؤمنين، اللواتي لا يطمع فيهن طامع، ولا يرف عليهن خاطر مريض، فيما يبدو للعقل أول مرة. وفي أي عهد يكون هذا التحذير؟ في عهد النبي [صلى الله عليه وسلم] وعهد الصفوة المختارة من البشرية في جميع الأعصار.. ولكن الله الذي خلق الرجال والنساء يعلم أن في صوت المرأة حين تخضع بالقول، وتترقق في اللفظ، ما يثير الطمع في قلوب، ويهيج الفتنة في قلوب. وأن القلوب المريضة التي تثار وتطمع موجودة في كل عهد، وفي كل بيئة، وتجاه كل امرأة، ولو كانت هي زوج النبي الكريم، وأم المؤمنين. وأنه لا طهارة من الدنس، ولا تخلص من الرجس، حتى تمتنع الأسباب المثيرة من الأساس.
فكيف بهذا المجتمع الذي نعيش اليوم فيه. في عصرنا المريض الدنس الهابط، الذي تهيج فيه الفتن وتثور فيه الشهوات، وترف فيه الأطماع؟ كيف بنا في هذا الجو الذي كل شيء فيه يثير الفتنة، ويهيج الشهوة وينبه الغريزة، ويوقظ السعار الجنسي المحموم؟ كيف بنا في هذا المجتمع، في هذا العصر، في هذا الجو، ونساء يتخنثن في نبراتهن، ويتميعن في أصواتهن، ويجمعن كل فتنة الأنثى، وكل هتاف الجنس، وكل سعار الشهوة؛ ثم يطلقنه في نبرات ونغمات؟! وأين هن من الطهارة؟ وكيف يمكن أن يرف الطهر في هذا الجو الملوث. وهن بذواتهن وحركاتهن وأصواتهن ذلك الرجس الذي يريد الله أن يذهبه عن عباده المختارين؟!
نهاهن من قبل عن النبرة اللينة واللهجة الخاضعة؛ وأمرهن في هذه أن يكون حديثهن في أمور معروفة غير منكرة؛ فإن موضوع الحديث قد يطمع مثل لهجة الحديث. فلا ينبغي أن يكون بين المرأة والرجل الغريب لحن ولا إيماء، ولا هذر ولا هزل، ولا دعابة ولا مزاح، كي لا يكون مدخلا إلى شيء آخر وراءه من قريب أو من بعيد.
والله سبحانه الخالق العليم بخلقه وطبيعة تكوينهم هو الذي يقول هذا الكلام لأمهات المؤمنين الطاهرات. كي يراعينه في خطاب أهل زمانهن خير الأزمنة على الإطلاق!