معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } اختلفوا فيهما فقال عكرمة : هم صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله ، وقال أبو عبيدة : هما كل معبود يعبد من دون الله . قال الله تعالى { أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل :36 ] ، وقال عمر : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان : وهو قول الشعبي ، ومجاهد . وقيل : الجبت الأوثان ، والطاغوت شياطين الأوثان ، ولكل صنم شيطان يعبر عنه فيغتر به الناس ، وقال محمد بن سيرين ومكحول : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الساحر . وقال سعيد بن جبير وأبو العالية : الجبت : الساحر بلسان الحبشة ، والطاغوت : الكاهن . وروي عن عكرمة : الجبت بلسان الحبشة : شيطان . وقال الضحاك : الجبت : حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف . دليله قوله تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } [ النساء :60 ] أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنا أبو الحسن بن بشران ، أنا إسماعيل ابن محمد الصفار ، أنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنا عبد الرزاق ، أنا معمر ، عن عوف العبدي ، عن حيان ، عن قطن بن قبيصة ، عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { العيافة والطرق والطيرة من الجبت } .

وقيل : الجبت كل ما حرم الله ، والطاغوت كل ما يطغي الإنسان .

قوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } .

قال المفسرون : خرج كعب بن الأشرف في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزل كعب على أبي سفيان ، فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش ، فقال أهل مكة : إنكم أهل الكتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم ، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين ، وآمنوا بهما ، ففعلوا ذلك ، فذلك قوله تعالى : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } . ثم قال كعب لأهل مكة : ليجئ منكم ثلاثون ومنا ثلاثون ، فنلزق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد رب هذا البيت لنجهدن على قتال محمد ففعلوا . ثم قال أبو سفيان لكعب : إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أميون لا نعلم ، فأينا أهدى طريقا ؟ نحن أم محمد ؟ قال كعب : اعرضوا علي دينكم ؟ فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحجيج الكوماء ، ونسقيهم الماء ، ونقري الضيف ، ونفك العاني ، ونصل الرحم ، ونعمر بيت ربنا ، ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه ، وقطع الرحم ، وفارق الحرم ، وديننا القديم ، ودين محمد الحديث . فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلاً مما عليه محمد وأصحابه ، فأنزل الله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } ، يعني : كعباً وأصحابه { يؤمنون بالجبت والطاغوت } . يعني : الصنمين . { ويقولون للذين كفروا } أبي سفيان وأصحابه { هؤلاء أهدى من الذين آمنوا } محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ( سبيلاً ) ديناً .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا * فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا }

وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أن أخلاقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث ، حملهم على ترك الإيمان بالله ورسوله ، والتعوض عنه بالإيمان بالجبت والطاغوت ، وهو الإيمان بكل عبادة لغير الله ، أو حكم بغير شرع الله .

فدخل في ذلك السحر والكهانة ، وعباده غير الله ، وطاعة الشيطان ، كل هذا من الجبت والطاغوت ، وكذلك حَمَلهم الكفر والحسد على أن فضلوا طريقة الكافرين بالله -عبدة الأصنام- على طريق المؤمنين فقال : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا } أي : لأجلهم تملقا لهم ومداهنة ، وبغضا للإيمان : { هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } أي : طريقا . فما أسمجهم وأشد عنادهم وأقل عقولهم " كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم ؟ " هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلاء ، أو يدخل عقلَ أحد من الجهلاء ، فهل يُفَضَّل دين قام على عبادة الأصنام والأوثان ، واستقام على تحريم الطيبات ، وإباحة الخبائث ، وإحلال كثير من المحرمات ، وإقامة الظلم بين الخلق ، وتسوية الخالق بالمخلوقين ، والكفر بالله ورسله وكتبه ، على دين قام على عبادة الرحمن ، والإخلاص لله في السر والإعلان ، والكفر بما يعبد من دونه من الأوثان والأنداد والكاذبين ، وعلى صلة الأرحام والإحسان إلى جميع الخلق ، حتى البهائم ، وإقامة العدل والقسط بين الناس ، وتحريم كل خبيث وظلم ، والصدق في جميع الأقوال والأعمال ، فهل هذا إلا من الهذيان ، وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس وأضعفهم عقلا ، وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق ، وهذا هو الواقع ، ولهذا قال تعالى عنهم : { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ } أي : طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته . { وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا } أي : يتولاه ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره ، وهذا غاية الخذلان .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

وقوله تعالى : { ألم تر إلى الذين } الآية ، ظاهرها يعم اليهود والنصارى ، ولكن أجمع المتأولون على أن المراد بها طائفة من اليهود ، والقصص يبين ذلك ، واختلف في { الجبت والطاغوت } ، فقال عكرمة وغيره : هما في هذا الموضع صنمان كانا لقريش ، وذلك أن كعب بن الأشرف وجماعة معه وردوا مكة محرضين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت لهم قريش : إنكم أهل الكتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، ونحن لا نأمنكم أن تكونوا معه ، إلا أن تسجدوا لهذين الصنمين اللذين لنا ، ففعلوا ، ففي ذلك نزلت هذه الآية ، وقال ابن عباس : { الجبت } هنا : حيي بن أخطب { والطاغوت } : كعب بن الأشرف .

فالمراد على هذه الآية القوم الذين كانوا معهما من بني إسرائيل لإيمانهم بهما واتباعهم لهما ، وقال ابن عباس : { الجبت } الأصنام ، { والطاغوت } القوم المترجمون عن الأصنام ، الذين يضلون الناس بتعليمهم إياهم عبادة الأصنام ، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : { الجبت } السحر ، { والطاغوت } : الشيطان ، وقاله مجاهد والشعبي ، وقال زيد بن أسلم : { الجبت } : الساحر ، { والطاغوت } : الشيطان ، وقال سعيد بن جبير ورفيع : { الجبت } : الساحر ، و { الطاغوت } : الكاهن ، وقال قتادة : { الجبت } : الشيطان ، والطاغوت : الكاهن ، وقال سعيد بن جبير أيضاً : الجبت : الكاهن ، والطاغوت : الشيطان ، وقال ابن سيرين : { الجبت } : الكاهن ، { والطاغوت } : الساحر ، وقال مجاهد في كتاب الطبري : { الجبت } : كعب ابن الأشرف ، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان .

قال ابن عطية : فمجموع هذا يقتضي أن { الجبت والطاغوت } هو كل ما عبد وأُطيع من دون الله تعالى ، وكذلك قال مالك رحمه الله : الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى ، وذكر بعض الناس أن الجبت : هو من لغة الحبشة ، وقال قطرب : { الجبت } أصله الجبس ، وهو الثقيل الذي لا خير عنده ، وأما { الطاغوت } فهو من طغى ، أصله طغووت وزنه فعلوت ، وتاؤه زائدة ، قلب فرد فلعوت ، أصله طوغوت ، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً ، وقوله تعالى : { ويقولون للذين كفروا } الآية سببها ، أن قريشاً قالت لكعب بن الأشرف حين ورد مكة : أنت سيدنا وسيد قومك ، إنّا قوم ننحر الكوماء{[4104]} ، ونقري الضيف ، ونصل الرحم ، ونسقي الحجيج ، ونعبد آلهتنا الذين وجدنا أباءنا يعبدون ، وهذا الصنبور المنبتر من قومه{[4105]} قد قطع الرحم ، فمن أهدى نحن أو هو ؟ فقال كعب : أنتم أهدى منه وأقوم ديناً ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس{[4106]} : وحكى السدي : أن أبا سفيان خاطب كعباً بهذه المقالة ، فالضمير في { يقولون } عائد على كعب على ما تقدم - أو على الجماعة من بني إسرائيل التي كانت مع كعب ، لأنها قالت بقوله في جميع ذلك على ما ذكر بعض المتأولين ، و { الذين كفروا } في هذه الآية هم قريش ، والإشارة ب { هؤلاء } إليهم ، و { أهدى } : وزنه أفعل وهو للتفضيل ، و { الذين آمنوا } : هم النبي عليه السلام وأمته ، و { سبيلاً } نصب على التمييز ، وقالت فرقة : بل المراد في الآية من بني إسرائيل هو حيي بن أخطب وهو المقصود من أول الآيات ، والمشار إليه بقوله { أولئك } .


[4104]:- الكوماء: الناقة العظيمة السنام طويلته، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في نعم الصدقة ناقة كوماء وهي الضخمة السنام. (اللسان).
[4105]:- الصنبور المنبتر: صفتان وصف بهما كفار قريش النبي صلى الله عليه وسلم، يقال: رجل صنبور: فرد ضعيف ذليل لا أهل له ولا عقب، وكذلك الأبتر الذي لا عقب له ولا أخ، وأصل الصنبور، سعفة تنبت في جذع النخلة لا في الأرض، وقال أبو عبيدة: الصنبور: النخلة تبقى منفردة ويدق أسفلها وينقشر. (اللسان).
[4106]:- أخرجه الطبراني والبيهقي في الدلائل من طريق عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا مع اختلاف يسير في الألفاظ. (الدر المنثور).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

أعيد التعجيب من اليهود ، الذين أوتوا نصيباً من الكتاب ، بما هو أعجب من حالهم التي مرّ ذكرها في قوله : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة } [ النساء : 44 ] ؛ فإنّ إيمانهم بالجبت والطاغوت وتصويبهم للمشركين تباعد منهم عن أصول شرعهم بمراحل شاسعة ، لأنّ أوّل قواعد التوراة وأولى كلماتها العشر هي ( لا يكن لك آلهة أخرى أمامي ، لا تصنع لك تمثالاً منحُوتاً ، لا تسجد لهنّ ولا تعبدهنّ ) . وتقدّم بيان تركيب { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } آنفاً في سورة آل عمران ( 23 ) .

والجبت : كلمة معرّبة من الحبشية ، أي الشيطان والسحر ؛ لأنّ مادة : جَ بَ تَ مهملة في العربية ، فتعيّن أن تكون هذه الكلمة دخيلة . وقيل : أصلها جبس : وهو ما لا خير فيه ، فأبدلت السين تاء كما أبدلت في قول علباء بن أرقم : يا لَعَنَ الله بني السعْلات ، عمرَو بنَ يَربوع شرار النَّات ، ليسوا أعفّاء ولا أكيات ، أي شرار الناس ولا بأكياس . وكما قالوا : الجتّ بمعنى الجسّ .

والطاغوت : الأصنام كذا فسّره الجمهور هنا ونقل عن مالك بن أنس . وهو اسم يقع على الواحد والجمع فيقال : للصَّنم طاغوت وللأصنام طاغوت ، فهو نظير طِفْل وفُلْك . ولعلّ التزام اقترانه بلام تعريف الجنس هو الذي سوّغ إطلاقه على الواحد والجمع نظير الكتاب والكتب . ثم لمّا شاع ذلك طردوه حتّى في حالة تجرّده عن اللام ، قال تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } [ النساء : 60 ] فأفرده ، وقال : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يَعْبُدوها } [ الزمر : 17 ] ، وقال : { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم } [ البقرة : 257 ] الخ . وهذا الاسم مشتقّ من طغى يطغو إذا تعاظم وترفّع ، وأصله مصدر بوزن فَعَلوت للمبالغة ، مثل : رهبوت ، وملكوت ، ورحموت ، وجبَروت ، فأصله طَغَوُوت فوقع فيه قلب مكاني بتقديم لام الكلمة على عينها فصار طوغوت بوزن فَلَعُوت ، والقصد من هذا القلب تأتّي إبدال الواو ألفاً بتحرّكها وانفتاح ما قبلها ، وهم قد يقلبون حروف الكلمة ليتأتّى الإبدال كما قلبوا أرْءَام جمع ريم إلى آرام ليتأتى إبدال الهمزة الثانية الساكنة ألفاً بعد الأولى المفتوحة ، وقد ينزّلون هذا الاسم منزلة المفرد فيجمعونه جمع تكسير على طواغيت ووزنه فعاليل ، وورد في الحديث : " لا تحلفوا بالطواغيت " . وفي كلام ابن المسيّب في « صحيح البخاري » : البَحيرة التي يْمُنع درّها للطواغيت .

وقد يطلق الطاغوت على عظيم أهل الشرك كالكاهن ، لأنّهم يعظّمونه لأجل أصنامهم ، كما سيأتي في قوله تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } في هذه السورة [ النساء : 60 ] .

والآية تشير إلى ما وقع من بعض اليهود ، وفيهم كعب بن الأشرف ، وحيي بن أخطب ، فإنّهم بعد وقعة أحُد طمعوا أن يسعوا في استئصال المسلمين ، فخرجوا إلى مكّة ليحَالفوا المشركين على قتال المسلمين ، فنزل كعب عند أبي سفيان ، ونزل بَقيّتهم في دور قريش ، فقال لهم المشركون ( أنتم أهل كتاب ولعلّكم أن تكونوا أدنى إلى محمّد وأتباعه منكم إلينا فلا نَأمن مكركم ) فقالوا لهم ( إنّ عبادة الأصنام أرضى عند الله ممّا يدعو إليه محمد وأنتم أهدى سبيلاً ) فقال لهم المشركون ( فاسجدوا لآلهتنا حتّى نطمئنّ إليكم ) ففعلوا ، ونزلت هذه الآية إعلاماً من الله لرسوله بما بيتّه اليهود وأهل مكة .

واللام في قوله { للذين كفروا } لام العلّة ، أي يقولون لأجل الذين كفروا وليس لامَ تعدية فعل القول ، وأريد بهم مشركو مكة وذلك اصطلاح القرآن في إطلاق صفة الكفر أنّه الشرك ، والإشارة بقوله : { هؤلاء أهدى } إلى الذين كفروا ، وهو حكاية للقول بمعناه ، لأنّهم إنّما قالوا : « أنتم أهدى من محمّد وأصحابه » ، أو قال بعض اليهود لبعض في شأن أهل مكة { هؤلاء أهدى } ، أي حين تناجوا وزوّروا ما سيقولونه ، وكذلك قوله { من الذين آمنوا } حكاية لقولهم بالمعنى نداء على غلطهم ، لأنّهم إنّما قالوا : « هؤلاء أهدى من محمّد وأتباعه » وإذ كان محمد وأتباعه مؤمنين فقد لزم من قولهم : إنّ المشركين أهدى من المؤمنين . وهذا محلّ التعجيب .