الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ } قرأ السلميّ : ( ألم تره ) في كلّ القرآن ، وهي لغة قوم لا يكتفون من الجزم بحذف الحرف حتى يسكنوا حركته ، كقول الشاعر :

من يهدِه الله يهتدْ لا مضل له *** ومن أضل فما يهديه من هادي

{ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } اختلفوا فيهما ، فقال عكرمة : هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله . أبو عبيدة : هما كلّ معبود من حجر أو مدر أو صورة أو شيطان ، يدل عليه قوله :

{ أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] ، وقوله :

{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا } [ الزمر : 17 ] .

عطية عن ابن عباس : الجبت : الأصنام ، والطاغوت : تراجمة الأصنام الذين يكونون بين أيديهم يفترون عنها الكذب ليضلوا النّاس ، وقيل : الجبت : الأوثان ، والطاغوت : شياطين الأصنام ، لكل صنم شيطان يفسّر عنها فيغترّ بها النّاس . أبو عمرو الشّعبي ومجاهد : الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان . زيد بن أرقم : الجبت : الساحر ، ويقال له : الجبس ، قلبت سينه تاء ، والطاغوت : الشيطان ، يدلّ عليه قوله :

{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ } [ البقرة : 257 ] .

قال محمد بن سيرين ومكحول : الجبت : الكاهن ، والطّاغوت : الساحر ، وهو رواية الوالبي عن ابن عباس . سعيد بن جبير وأبو العالية ، الجبت : شاعر بلسان الحبشة ، والطّاغوت : الكاهن . عكرمة : كان أبو هريرة كاهناً في الجاهلية ممن أقرّ إليه ناس ممّن أسلم ، فنزلت هذه الآية . الضحاك والكلبي ومقاتل : الجبت : حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف ودليله قوله :

{ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ } [ النساء : 60 ] .

حكى أبو القاسم الحسين ، عن بعضهم أنّ الجبت إبليس ، والطاغوت أولياؤه ، عن قطر بن قيصيه ، عن مخارق عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الطرق والطيرة والعيافة من الجبت ، والجبت كلّ ما حرّم الله ، والطّاغوت هو ما يُطغي الإنسان " .

{ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } قال المفسّرون : خرج كعب ابن الأشرف في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش ، فقال أهل مكة : إنّكم أهل كتاب ، ومحمد صاحب كتاب ونحن أُمية ، ولا نأمن أن يكون هذا مكراً منكم ، وإن أردت أن نخرج معك ، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ، ففعل ذلك ، فذلك قوله : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } ثم قال كعب لأهل مكة : ليجئ منكم ثلاثون ومنّا ثلاثون فلنلزق أكبادنا بالكعبة ، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنَّ على قتال محمد ففعلوا ذلك ، فلمّا فرغوا قال أبو سفيان : إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ، ونحن أمّيون لا نعلم فأيّنا أهدى طريقاً وأقرب الى الحق ؟ أنحن أم محمد ؟ فقال كعب : اعرضوا عليَّ دينكم ، فقال أبو سفيان : نحن ننحر للحاج الكرماء ونسقيهم الماء ونقري الضيف ونفكّ العاني ونصل الرحم ونعمّر بيت ربّنا ونطوف به ، ونحن أهل الحرم ، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم ، وديننا القديم ودين محمد الحديث . فقال كعب : أنتم والله أهدى سبيلا ممّا عليه محمد ، فأنزل الله الآية { إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ } : يعني كعباً وأصحابه ، يؤمنون بالجبت والطاغوت يعني الصنمين { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أبي سفيان وأصحابه : هؤلاء أهدى من الذين آمنوا ؛ محمد وأصحابه سبيلا أي ديناً .