اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

قال المفسِّرُون{[8254]} : خرج كَعْبُ بنُ الأشْرَفِ ، وحُيَيّ بن أخْطَبَ ، فِي سَبْعِينَ رَاكِباً من اليَهُودِ إلى مَكَّةَ بعد وَقْعَةِ أحُد ؛ ليُحالفُوا قُرَيْشاً ، على مُحَارَبَةِ الرَّسُولِ - عليه الصَّلاة والسلام - ويَنقُضُوا العهدَ الذي كان بينَهُم وبين النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فنزل كَعْبٌ علَى أبِي سُفْيانَ ؛ فأحْسنَ مَثْوَاهُ ، ونزلت اليهودُ في دُورِ قُرَيْشٍ ، فقال أهْلُ " مكة " : إنكم{[8255]} أهل كتاب ، ومُحَمَّدٌ صاحبُ كِتابٍ ، ولا نأمَنُ أن يكُونَ هذا مَكْراً مِنكم ، فإن أرَدْتَ أن نخرجَ مَعَكَ ، فاسْجُدْ لهذين الصَّنَميْنِ وآمنوا بهما ، فَفَعلُوا ذلك ؛ فذلك قوله تعالى : { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ }{[8256]} .

ثم قال كَعْبٌ لأهْلِ مَكَّةَ : ليجيء منكم [ الآن ]{[8257]} ثلاثُونَ ومِنَّا ثلاثُونَ فنلْزقَ أكْبَادنا بالكعبةِ ؛ فنعاهد رَبَّ هذا البيتِ ، لنجهدنَّ على قِتَالِ مُحَمَّدٍ ؛ فَفَعلُوا ، ثُمَّ قال أبُو سُفْيانَ لِكَعْبٍ : إنَّك امرؤٌ تَقْرَأُ الكِتَابَ ، وتَعْلَمُ ، ونحنُ أُمُّيُّون ، ولا نَعلَمُ ، فَأيُّنَا أهْدَى طَريقاً : نَحْنُ أم{[8258]} مُحَمَّدٌ ؟

فقال كَعْبٌ لأبي سُفْيان : اعرضُوا عليَّ دينكم ، فقال أبُو سُفْيَانَ : نحن نَنْحَرُ للحَجِيج الكُومَاء{[8259]} ، ونَسْقيهمُ [ الماء ]{[8260]} ونَقْري الضَّيْفَ ، ونُقِلُّ العَانِي ، ونَصِلُ الرَّحِمَ ، ونعَمِّرُ بين رَبِّنَا ، ونطوفُ به ، ونحنُ أهْلُ الحَرَم ، ومحمدٌ فارق دينَ آبَائِهِ ، وقطعَ الرَّحمَ ، وفارقَ الحَرَمَ ، ودينُنَا القَديمُ ، ودينُ محمدٍ الحديثُ ، فقال كَعْبٌ : أنْتُمْ واللَّهِ أهْدَى سَبِيلاً مَمَّا عليه محمدٌ ؛ فنزلتْ هذه الآيةُ .

قوله : { يُؤْمِنُونَ } فيه وجهانِ :

أحدُهُمَا : أنه حَالٌ إمَّا من : " الذين " وإمَّا مِنْ واوِ " أوتوا " ، و " بالجبت " مُتعلِّقٌ به ، و " يقولون " عطفٌ عليه ، و " الذين " مُتعلِّقٌ ب " يقولون " ، واللامُ ؛ إمَّا للتبيلغِ ، وإمَّا لِلْعلةِ ؛ كنظائرها ، و " هؤلاء أهدى " مُبْتَدأٌ وخَبَرٌ في محل نَصْبٍ{[8261]} بالقول و " سبيلاً " تَميِيزٌ .

والثَّانِي : أنَّ " يؤمنون " مُستأنَفٌ ، وكأنَّه تعجَّبَ مِنْ حَالِهم ؛ إذْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ أوتِيَ نَصيباً من الكتاب ؛ ألاَّ يَفْعَلَ شَيْئاً مِمَّا ذُكِرَ ، فَيكُونُ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ ؛ كأنَّهُ قيلَ : ألاَ تَعْجَبُ مِنْ حَالِ الذِين أوتُوا نَصِيباً من الكتاب ؟ فقيل : وما حَالُهم ؟ فقالَ : يؤمِنُون [ ويقولُونَ ، وهذان ]{[8262]} منافيان لحالهم .

والجِبْتُ : حَكَى القَفَّالُ ، وغيرهُ ، عَن بَعْضِ أهلِ اللُّغَةِ : وهو الجِبْسُُ ، بِالسِّينِ المُهْمَلَةِ ، أُبدلتْ تاءً ، كالنَّات ، والأكْيَاتِ ، وست ؛ في النَّاسِ ، والأكياسِ ، وسدس ، قال [ الرجز المشطور ]

. . . . . . . . . . . . . . شِرَارَ النَّاتِ *** لَيْسُوا بِأجْوَادٍ ولاَ أكْيَاتِ{[8263]}

والجبس : هو الذي لا خير عنده .

يُقالُ رَجِلٌ جِبس ، وجِبتٌ ، أيْ : رَذْلٌ ، قِيلَ : وإنما ادَّعَى قلبَ السِّين تاءً ؛ لأنَّ مَادَةَ ( ج ب ت ) مُهْمَلَةٌ . قَالَ{[8264]} قُطْرُبٌ : وغيرهُ يَجْعَلُها{[8265]} مَادَّةً مُسْتَقِلَّةً ، وقِيل : الجِبْتُ : السَّاحِرُ بلُغَةِ الحَبَشَةِ ، والطَّاغُوتُ : الكَاهِنُ ، قالهُ سعيدُ بنُ جُبَيْر ، وأبُو العَالِيَةِ{[8266]} ، وقال عِكْرمَةُ : هما صَنَمانِ{[8267]} ، وقال أبُو عُبَيْدَةَ : هُما كُلُّ مَعْبُودٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ .

وقال عُمَر : الجِبْتُ : السِّحْرُ ، والطاغُوتُ : الشَّيْطَانُ ؛ وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، ومُجاهِدٍ{[8268]} ، وقال مُحمدُ بنُ سيرينََ ، ومَكْحُولٌ : الجِبْتُ : الكاهِنُ ، والطَّاغُوتُ : السَّاحِرُ{[8269]} ، ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ : الجِبْتُ : - بلسانِ الحبَشَةِ - : شَيْطَانٌ{[8270]} ، وقال الضَّحَّاكُ : الجبتُ : حُيَيُّ بنُ أخْطب ، والطَّاغُوتُ : كَعْبُ بنُ الأشْرَف{[8271]} ، وقِيل : الجبتُ كُلُّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ، والطاغوتُ : كُلُّ ما يُطْغي الإنْسانَ .

ورَوى قَبيصةُ : أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : العِيافَةُ : والطَّرْقُ ، والطِّيرةُ : مِنَ الجِبْتِ{[8272]} .

الطَّرْقُ : الزَّجْرُ ، والعِيَافَة{[8273]} : الحط


[8254]:ينظر: معالم التنزيل 1/441 وتفسير الرازي 10/103 وتفسير القرطبي 5/161.
[8255]:في ب: ألكم.
[8256]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/468) عن عكرمة وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/306) وزاد نسبته إلى عبد الرازق.
[8257]:سقط في أ.
[8258]:في ب: أو.
[8259]:في ب: الكرماء.
[8260]:سقط في ب.
[8261]:في أ: وخبره في محل نصب.
[8262]:سقط في أ.
[8263]:تقدم.
[8264]:في ب: قال.
[8265]:في ب: فجعلناه.
[8266]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/463) عن سعيد بن جبير وأبي العالية وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/307) عن عكرمة وعزاه لعبد بن حميد. ومعالم التنزيل 1/441.
[8267]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/469) عن عكرمة.
[8268]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/462) عن عمر والشعبي ومجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/307) وزاد نسبته للفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره أيضا (2/307) عن مجاهد وزاد نسبته لعبد بن حميد.
[8269]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/464) عن سعيد بن جبير ومحمد بن سيرين.
[8270]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/307) عن ابن عباس وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[8271]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (8/465) عن ابن عباس والضحاك.
[8272]:أخرجه أحمد (5/60) وأبو داود كتاب الطب ب 23 والبيهقي (8/139) وعبد الرازق (19502) وابن حبان (1426 ـ موارد) وابن أبي شيبة (9/43) والطبراني (18/369) وابن سعد (7/23) والطحاوي "شرح معاني الآثار" (4/313) والخطيب (10/425) عن قطن بن قبيصة بن مخارق عن أبيه مرفوعا. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (2/308) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[8273]:العيافة: زجر الطير، والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها، وهو من عادة العرب كثيرا.