البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّـٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَـٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا} (51)

الجبت : اسم لصنم ثم صار مستعملاً لكل باطل ، ولذلك اختلفت فيه أقاويل المفسرين على ما سيأتي .

وقال قطرب : الجبت الجبس ، وهو الذي لا خير عنده ، قلبت السين تاء .

قيل : وإنما قال هذا لأن الجبت مهمل .

{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت } أجمعوا أنَّها في اليهود .

وسبب نزولها أنَّ كعب بن الأشرف وحيى بن أخطب وجماعة معهما وردوا مكة يحالفون قريشاً على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أنتم أهل كتاب ، وأنتم أقرب إلى محمد منكم إلينا فلاناً من مكركم فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم ، ففعلوا .

وقال أبو سفيان : أنحن أهدى سبيلاً أم محمد ؟ فقال كعب : ماذا يقول محمد ؟ قالوا : يأمر بعبادة الله وحده ، وينهى عن الشرك .

قال : وما دينكم ؟ قالوا : نحن ولاة البيت نسقي الحاج ، ونقري الضيف ، ونفك العانى ، وذكروا أفعالهم .

فقال : أنتم أهدى سبيلاً .

وفي بعض ألفاظ هذا السبب خلاف قاله ابن عباس .

وقال عكرمة ، خرج كعب في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ، والكتاب هنا التوراة على قول الجمهور ، ويحتمل أن يكون التوراة والإنجيل .

والجبت والطاغوت صنمان كانا لقريش قاله : عكرمة وغيره .

أو الجبت هنا حيي ، والطاغوت كعب ، قاله : ابن عباس أيضاً .

أو الجبت السحر ، والطاغوت الشيطان ، قاله : مجاهد ، والشعبي وروى عن عمر والجبت الساحر ، والطاغوت الشيطان قاله : زيد بن أسلم .

أو الجبت الساحر ، والطاغوت الكاهن ، قاله : رفيع وابن جبير .

أو الجبت الكاهن ، والطاغوت الشيطان ، قاله : ابن جبير أيضاً .

أو الجبت الكاهن ، والطاغوت الساحر ، قاله : ابن سيرين .

أو الجبت الشيطان ، والطاغوت الكاهن قاله : قتادة .

أو الجبت كعب ، والطاغوت الشيطان كان في صورة انسان ، أو الجبت الأصنام وكل ما عبد من دون الله ، والطاغوت الشيطان قاله : الزمخشري .

أو الجبت والطاغوت كل معبود من دون الله من حجر ، أو صورة ، أو شيطان قاله : الزجاج ، وابن قتيبة .

وأورد بعض المفسرين الخلاف مفرقاً فقال : الجبت السحر قاله : عمر ، ومجاهد ، والشعبي .

أو الأصنام رواه عطية عن ابن عباس ، وبه قال الضحاك ، والفراء ، أو كعب بن الأشرف .

رواه الضحاك ، عن ابن عباس .

وليث ، عن مجاهد .

أو الكاهن روى عن ابن عباس ، وبه قال : مكحول ، وابن سيرين .

أو الشيطان قاله : ابن جبير في رواية ، وقتادة والسدي أو الساحر قاله : أبو العالية وابن زيد .

وروى أبو بشر عن ابن جبير قال : الجبت الساحر بلسان الحبشة ، وأما الطاغوت فالشيطان قاله : عمر ، ومجاهد في رواية الشعبي وابن زيد .

أو المترجمون بين يدى الأصنام رواه العوفي عن ابن عباس ، أو كعب ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس وبه قال : الضحاك ، والفرّاء .

أو الكاهن قاله عكرمة أو الساحر ، روي عن ابن عباس ، وابن سيرين ، ومكحول ، أو كل ما عبد من دون الله قاله : مالك .

وقال قوم : الجبت والطاغوت مترادفان على معنى واحد ، والجمهور وأقوال المفسرين على خلاف ذلك ، وأنهما اثنان .

وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام على المغيبات جبتاً لكون علم الغيب يختص بالله تعالى .

خرج أبو داود في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الطرق والطيرة والعيافة من الجبت » الطرق الزجر ، والعيافة الخط .

فان الجبت والطاغوت الأصنام أو ما عبد من دون الله ، فالإيمان بهما التصديق بأنهما آلهة يشركونهما في العبادة مع الله ، وان كان حيياً ، وكعباً ، أو جماعة من اليهود ، أو الساحر ، أو الكاهن ، أو الشيطان ، فالإيمان بهم عبارة عن طاعتهم وموافقتهم على ما هم عليه ، ويكون من باب اطلاق ثمرة الإيمان وهي الطاعة على الإيمان .

{ ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } الضمير في يقولون عائد على الذين أوتوا .

وفي سبب النزول ان كعباً هو قائل هذه المقالة ، والجملة من يؤمنون حال ، ويقولون معطوف على يؤمنون فهي حال .

ويحتمل أنْ يكون استئناف أخبار تبين التعجب منهم كأنه قال : ألا تعجب إلى حال الذين أوتوا نصيباً ، فكأنه قيل : وما حالهم وهم قد أوتوا نصيباً من كتاب الله ؟ فقال : يؤمنون بكذا ، يقولون كذا .

أي : أن أحوالهم متنافية .

فكونهم أوتوا نصيباً من الكتاب يقتضي لهم أن لا يقعوا فيما وقعوا فيه ، ولكن الحامل لهم على ذلك هو الحسد .

واللام في للذين كفروا للتبليغ متعلقة بيقولون .

والذين كفروا هم قريش ، والإشارة بهؤلاء إليهم ، والذين آمنوا هم النبي وأمته .

والظاهر أنهم أطلقوا أفعل التفضيل ولم يلحظوا معنى التشريك فيه ، أو قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء لكفرهم .

/خ57