قوله تعالى :{ إذ تمشي أختك } واسمها مريم متعرفةً خبره { فتقول هل أدلكم على من يكفله } يعني : على امرأة ترضعه وتضمه إليها وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة ، فلما قالت ذلك لهم أخته قالوا : نعم ، فجاءت بالأم ، فقبل ثديها فذلك قوله تعالى : { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها } بلقائك { ولا تحزن } أي : لأن يذهب عنها الحزن { وقتلت نفساً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان قتل قبطياً كافراً . قال كعب الأحبار : كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة { فنجيناك من الغم } أي : من غم القتل وكربه { وفتناك فتوناً } قال ابن عباس رضي الله عنه : اختبرناك اختباراً . وقال الضحاك ، ومقاتل : ابتليناك ابتلاءً . وقال مجاهد : أخلصناك إخلاصاً . وعن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير إن الفتون وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة ، ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفاً . فكان ابن عباس يقص القصة على سعيد بن جبير فعلى هذا معنى فتناك : خلصناك من تلك المحن ، كما يفتن الذهب من النار ، فيخلص من كل خبث فيه ، والفتون : مصدر{ فلبثت } فمكثت . أي : فخرجت من أرض مصر إلى مدين فلبثت { سنين في أهل مدين } يعني : ترعى الأغنام عشر سنين ، ومدين : بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر هرب إليها موسى . وقال وهب : لبث عند شعيب عليه السلام ثمانياً وعشرين سنة . عشر سنين منها مهر زوجته صفوراء بنت شعيب وثمان عشرة سنة أقام عنده حتى ولد له { ثم جئت على قدر يا موسى } قال مقاتل : على موعد ولم يكن هذا الموعد مع موسى ، وإنما كان موعداً في تقدير الله ، قال محمد بن كعب : جئت على القدر الذي قدرت أنك تجيء إلي فيه . وقال عبد الرحمن بن كيسان : على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه إلى الأنبياء ، وهذا معنى قول أكثر المفسرين أي : على الموعد الذي وعده الله وقدره أنه يوحي إليه بالرسالة ، وهو أربعون سنة .
فجاءت أخت موسى ، فقالت لهم : { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون }
{ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا } وهو القبطي لما دخل المدينة وقت غفلة من أهلها ، وجد رجلين يقتتلان ، واحد من شيعة موسى ، والآخر من عدوه قبطي { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه } فدعا الله وسأله المغفرة ، فغفر له ، ثم فر هاربا لما سمع أن الملأ طلبوه ، يريدون قتله .
فنجاه الله من الغم من عقوبة الذنب ، ومن القتل ، { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } أي : اختبرناك ، وبلوناك ، فوجدناك مستقيما في أحوالك أو نقلناك في أحوالك ، وأطوارك ، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ، { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } حين فر هاربا من فرعون وملئه ، حين أرادوا قتله ، فتوجه إلى مدين ، ووصل إليها ، وتزوج هناك ، ومكث عشر سنين ، أو ثمان سنين ، { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي : جئت مجيئا قد مضى به القدر ، وعلمه الله وأراده في هذا الوقت وهذا الزمان وهذا المكان ، ليس مجيئك اتفاقا من غير قصد ولا تدبير منا ، وهذا يدل على كمال اعتناء الله بكليمه موسى عليه السلام ، ولهذا قال : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } .
العامل في { إذ } فعل مضمر تقديره ومننا إذ ، وتقدم تفسير هذه الآية في القصص المذكور آنفاً . وقرأت فرقة «تقَر » بفتح القاف ، وقرأت فرقة بكسر القاف والنفس هي نفس القطبي الذي كان يقاتل الإسرائيلي فوكزه موسى فقضى عليه ، و { الغم } هم النفس وكان هم موسى بأمر من طلبه ليثأر به . وقوله { فتناك فتوناً } معناه خلصناك تخليصاً{[8106]} . هذا قول جمهور المفسرين . وقالت فرقة معناه اختبرناك وعلى هذا التأويل لا يراد إلا ما اختبر به موسى بعد بلوغه وتكليفه وما كان قبل ذلك فلا يدخل في اختبار موسى وعده سنيه { في أهل مدين } عشرة أعوام لأنه إنما قضى أوفى الأجلين وقوله { على قدر } أي بميقات محدودة{[8107]} للنبوة التي قد أرداها الله بك ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
نال الخلافة إذ كانت له قدراً . . . كما أتى ربه موسى على قدر{[8108]}
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ" يقول تعالى ذكره: حين تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك، ثم تأتي من يطلب المراضع لك، فتقول: هل أدلكم على من يكلفه؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله "إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ "استغناء بدلالة الكلام عليه...
عن ابن إسحاق، قال: قالت، يعني أمّ موسى لأخته: قصّيه فانظري ماذا يفعلون به، فخرجت في ذلك "فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه، فلا يؤتى بامرأة، فيقبل ثديها، فيرمضهم ذلك، فيؤتى بمرضع بعد مرضع، فلا يقبل شيئا منهم، فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم عليه "هَلْ أدُلّكُمْ عَلى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لكُم وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ" أي لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرّة الملك، وعنى بقوله: "هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ" هل أدلكم على من يضمه إليه فيحفظه ويرضعه ويربيه...
وقوله: "فَرَجَعْناكَ إلى أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلا تَحْزَن" يقول تعالى ذكره: فرددناك إلى أمك بعد ما صرت في أيدي آل فرعون، كيما تقرّ عينها بسلامتك ونجاتك من القتل والغرق في اليم، وكيلا تحزن عليك من الخوف من فرعون عليك أن يقتلك... وقوله: "وَقَتَلْتَ نَفْسا" يعني جلّ ثناؤه بذلك: قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيلي، فوكزه موسى.
وقوله: "فَنَجّيْناكَ مِنَ الغَمّ" يقول تعالى ذكره: فنجيناك من غمك بقتلك النفس التي قتلت، إذ أرادوا أن يقتلوك بها فخلصناك منهم، حتى هربت إلى أهل مدين، فلم يصلوا إلى قتلك وقوَدك...
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله "وَفَتَنّاكَ فُتُونا"؛ فقال بعضهم: ابتليناك ابتلاء واختبرناك اختبارا... عن مجاهد، قوله: "فُتُونا" قال: بلاءً، إلقاؤه في التابوت، ثم في البحر، ثم التقاط آل فرعون إياه، ثم خروجه خائفا...
وقال آخرون: معنى ذلك: أخلصناك... عن مجاهد "وَفَتَنّاكَ فُتُونا" أخلصناك إخلاصا...
وقد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة، وأنها الابتلاء والاختبار بالأدلة المُغنية عن الإعادة في هذا الموضع.
وقوله: "فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أهْلِ مَدْيَنَ" وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تمامه اكتفاء بدلالة ما ذكر عما حذف. ومعنى الكلام: وفتناك فتونا، فخرجت خائفا إلى أهل مدين، فلبثت سنين فيهم.
وقوله: "ثُمّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسَى" يقول جلّ ثناؤه: ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون رسولاً ولمقداره... عن مجاهد، قال: "عَلى قَدَرٍ يا مُوسَى" قال: موعد.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وفتناك فتونا"... والمعنى إنا عاملناك معاملة المختبر حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... البلاء على حَسَبِ قوة صاحبه وضعفه، فكلما كان المرء أقوى كان بلاؤه أوفى، وكلما كان أضعف كان بلاؤه أخف. وكانت أمُّ موسى ضعيفةً فَرَدَّ إليها وَلَدَها بعد أيام، وكان يعقوبُ أقوى في حاله فلم يُعِدْ إليه يوسفَ إلا بعد سنين طويلة...
{وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}: استخلصناكَ لنا حتى لا تكون لغيرنا...
{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}: أي عَدَدْنا أيامَ كونك في مدين شعيب، وكان أهل حضرتنا من الملائكة الذين عرفوا شرَفَكَ ومحبَّتَكَ منتظرين لك؛ فجئتَ على قَدَرٍ. ويقال إنَّ الأَجَل إذا جاء للأشياء فلا تأخيرَ فيه ولا تقديم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فُتُوناً}... أي فتناك ضروباً من الفتن...والفتنة: المحنة، وكل ما يشق على الإنسان وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة...
{ثَمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى} أي سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك وفي وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأخر.
الفتنة تشديد المحنة... ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب لا جرم عده الله تعالى من جملة النعم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم ذكر ظرف الصنع فقال: {إذ} أي حين {تمشي أختك} أي في الموضع الذي وضعوك به لينظروا لك مرضعة {فتقول} بعد إذ رأتك، لآل فرعون: {هل أدلكم على من يكفله} أي يقوم بمصالحه من الرضاع والخدمة، ناصحاً له، فقالوا: نعم! فجاءت بأمك فقبلت ثديها {فرجعناك} أي فتسبب عن قولها هذا أن رجعناك {إلى أمك} حين دلتهم عليها {كي تقر} أي تبرد وتسكن {عينها} وتربيك آمنة عليك غير خائفة، ظاهرة غير مستخفية {ولا تحزن} بفراقك أو بعدم تربيتها لك وبذلها الجهد في نفعك. {وقتلت نفساً} أي بعد أن صرت رجلاً من القبط دفعاً عن رجل من قومك فطلبت بها وأرادوا قتلك {فنجيناك} بما لنا من العظمة {من الغم} الذي كان قد نالك بقتله خوفاً من جريرته، بأن أخرجناك مهاجراً لديارهم نحو مدين {وفتناك فتوناً} أي خلصناك من محنة بعد محنة مرة بعد مرة، على أنه جمع فتن أو فتنة...
{فلبثت سنين} أي كثيرة {في أهل مدين} مقيماً عند نبينا شعيب عليه السلام يربيك بآدابه، وصاهرته على ابنته {ثم جئت} أي الآن {على قدر} أي وقت قدّرته في الأزل لتكليمي لك، وهو بلوغ الأشد والاستواء، وإرسالك إلى فرعون لأمضي فيه قدري الذي ذبح أبناء بني اسرائيل خوفاً منه، فجئت غير مستقدم ولا مستأخر {يا موسى}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {جئتَ} حضرتَ لدينا، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي. و (على) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه. والقدَر: تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل المصادفة، فيكون غير ملائم أو في ملاءَمتِه خلَل...
فقوله {ثم جئت على قدر يا موسى} يفيد أنّ ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدّراً من الله تقديراً مناسباً متدرجاً، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدّرها الله وحددها تحديداً منظماً لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير. فهذا تقدير خاص، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلّمه الله منه. وليس المراد القَدر العام الذي قدّره الله لتكوين جميع الكائنات، فإن ذلك لا يُشعر بمزية لموسى عليه السلام.