قوله : { إذ تَمْشِي }{[24263]} ( في عامل هذا الظرف أوجه :
أحدها : أنَّ العامل فيه " أَلْقِيَتُ " ، أي : ألقيتُ عليكَ محبَّةٌ منِّي وقت مشي أختِك .
الثاني : أنه منصوب بقوله : " وَلِتُصْنَع " {[24264]} ، أي : لتربَّى ويُحسنَ إليك في هذا الوقت : قال الزمخشري : والعامل في " إذ تَمْشِي " " أَلْقَيْتُ " أو " لِتُصْنَعَ " وقال أبو البقاء : " إذْ تَمْشِي " يجوز أن يتعلق بأحد الفعلين{[24265]} . يعني بالفعلين ما تقدم من " أَلْقِيْتُ " أو " لِتُصْنَعَ " {[24266]} ) . وعلى هذا فيجوز أن تكون المسألة من باب التنازع{[24267]} لأن كلاًّ من هذين العاملين يطلب هذا الظرف من حيث المعنى ، ويكون من إعمال الثاني للحذف من الأول{[24268]} ، وهذا إنما يتجه كل{[24269]} الاتجاه إذا جعلت " وَلِتُصْنَعَ " معطوفاً على علة محذوفة متعلقة ب " أُلْقِيْتُ " .
أما إذا جعلته متعلقاً{[24270]} بفعلٍ مضمرٍ بعده فيبعد ذلك ، أو يمتنع لكون الثاني صار من جملة أخرى .
الثالث : أن يكون " إذْ تَمْشِي " بدلاً من " إذْ أَوْحَيْنَا " {[24271]} .
قال الزمخشري : فإن قلت{[24272]} : كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان ؟ قلت{[24273]} : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل : لَقيتُ فَلاناً سَنَةَ كذا ، فتقول : وَأَنَا لَقيتهُ إذْ ذاك ، وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها{[24274]} . قال أبو حيان : وليس كما ذكره ، لأن السنة تقبل الاتساع ، فإذا{[24275]} وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين ، فإن{[24276]} كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصيصهما بما أضيفا إليه ، فلا{[24277]} يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول ، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقع مشي الأخت ، فليس وقت وقوع الوحي{[24278]} مشتملاً على أجزاء{[24279]} وقع{[24280]} في بعضها المشي بخلاف السنة{[24281]} .
قال شهاب الدين : وهذا تحامل منه عليه ، فإن{[24282]} زمن اللقاء{[24283]} أيضاً ضيق لا{[24284]} يسع فعليهما ، وإنما ذلك مبني على التساهل ، إذ المراد أن الزمان مشتملٌ على فعليهما{[24285]} .
وقال{[24286]} أبو البقاء : ويجوز أن يكون بدلاً من ( إذ ) الأولى : لأنَّ مشيْ أختِه كان مِنَّةً عليه{[24287]} .
يعني أن قوله : { إذْ أَوْحَيْنَا } منصوب بقوله : ( " مَنَنَّا " ){[24288]} {[24289]}فإذا جُعِلَ " إذْ تَمْشِي " بدلاً منه كان أيضاً ممتناً به عليه .
الرابع : أن يكون العامل فيه مضمراً تقديره : اذكر إذ تَمْشِي{[24290]} ، وهو على هذا مفعول به ( لفساد المعنى على الظرفية ){[24291]} .
قوله : { إِذْ تمشي أُخْتُكَ } ( اسمها مريم ){[24292]} .
يروي{[24293]} أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً في النيل ، وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها ، لأن الله - تعالى{[24294]}- حرَّم عليه المراضع غير أمه{[24295]} واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته{[24296]} متعرفة خبره ، فجاءت إليهم متنكرة فقالت : { هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } أي على امرأة ترضعه ؟ قالوا نعم : فجاءت الأم ، فَقَِبِلَ ثديها ، فذلك قوله : { فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } بلقائك{[24297]} . قوله : { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } . قرأ العامة " تَقَرَّ " بفتح التاء والقاف{[24298]} وقرأت فرقة : " تَقِرَّ " بكسر القاف{[24299]} ، وقد تقدم في سورة مريم أنهما لغتان{[24300]} .
وقرأ جناح بن حبيش " تُقَرَّ " بضم التاء وفتح القاف على البناء للمفعول{[24301]} " عَيْنُها " رفعاً لما لم يسم فاعله .
فإن قيل : ( لو قال ){[24302]} : كي لا تحزن وتقرَّ عينُها كان الكلام مفيداً لأنه لا يلزم من عدم حصول الحزن حصول السرور لها ، فلما قال أولاً { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } كان قوله { وَلاَ تَحزَن } فضلاً{[24303]} ، لأنه متى حصل السرور وجب زوالُ الغمِّ لا محالة .
فالجواب : المراد تقرَّ عينُها بسبب وصولك إليها ، ويزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك{[24304]} . قوله : { وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم } ، وهذه المنّة الخامسة . قال ابن عباس : هو الرجل القبطي{[24305]} الذي قتله خطأ بأن ( وكزه{[24306]} ){[24307]} حيث استغاثه الإسرائيلي إليه ، فحصل له الغم{[24308]} من وجهين :
الأول : من{[24309]} عقاب الدنيا ، وهو اقتصاص فرعون منه على ما حكى الله تعالى{[24310]} عنه { فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ }{[24311]} .
والثاني : من عقاب الله حيث قتله لا بأمر الله . فنجاه الله- تعالى{[24312]}- من الغمين ، أما من فرعون فوفق له المهاجرة{[24313]} إلى مدين ، وأما من عقاب الآخرة ( فلأن الله تعالى غفر له{[24314]} ذلك ){[24315]} . ( قال{[24316]} كعب الأحبار : كان عمره إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة{[24317]} ){[24318]} .
قوله : " فُتُوناً " فيه وجهان :
أحدهما : أنه مصدر على فُعُول كالقُعُود والجُلُوس ، إلا أنَّ فُعُولاً قليل في المتعدي{[24319]} ومنه الشُّكُور والكُفُور والثُّبُور واللُّزُوم قال تعالى : { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }{[24320]} وهذا على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر{[24321]} ، كقوله تعالى : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً }{[24322]} .
والثاني{[24323]} : أنه جمع فِتْن أو فِتْنَة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث{[24324]} كحُجُوزٍ وبُدُورٍ في حُجْرَةٍ{[24325]} وبَدْرَة{[24326]} ، أي : فَتناكَ ضروباً من الفتن{[24327]} . عن{[24328]} ابن عباس أنه ولُِدَ في عام يُقْتَل فيه الولدان ، وألقته أنه في البحر ، وقَتَل القبطيَّ ، وأجَّرَ نفسه عشر سنين ، وضلَّ عن الطريق وتفرقت غنمه{[24329]} في ليلة مظلمة . ولما سأل سعيد بن جبير عن ذلك أجاب بما تقدم ، وصار يقول عند كل واحدة : فهذه فتنة يا ابن جبير ، قال معناه الزمخشري{[24330]} .
وقال غيره : بفُتُونٍ من الفِتَن أي المِحَن مختبر بها{[24331]} .
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الفتون وقوعه في محنة خلصه الله منها ، أولها أنَّ أمه حملت{[24332]} في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ، ثم مَنْعُه من الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم أَخَذُه بحليةٍ فرعونَ حتى همَّ بقتلهِ ، ثم تناوله الجمرة بدل الجوهرة ثم قَتْلُه القبطيَّ ، وخروجه إلى مدين خائفاً . فعلى هذا معنى : فتناك أخلصناك من تلك المِحَن كما يُفْتَن الذهب بالنار فيتخلص من كل خبث فيه{[24333]} .
فإن قيل{[24334]} : إنه تعالى عدَّد أنواع مِنَنِهِ على موسى في هذا المقام ، فكيف يليق بهذا قوله : { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } ؟
فالجواب{[24335]} من وجهين :
الأول : ما تقدم من أنَّ " فَتَنَّاكَ " بمعنى خلصناك{[24336]} تخليصاً .
والثاني : أن الفتنة تشديد المحنة يقال : فُتِن فلانٌ{[24337]} عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه . قال تعالى : { فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله }{[24338]} ، وقال : { أَحَسِبَ{[24339]} الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }{[24340]} وقال{[24341]} : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين }{[24342]} ، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب عدَّه الله من جملة النِّعَم{[24343]} .
فإن قيل : هل يَصلح إطلاق الفَتَّان عليه سبحانه اشتقاقاً{[24344]} من قوله : { وفَتَنَّاكَ فُتُوناً } ؟
فالجواب : لا لأنه صفة ذمٍّ في العرب ، وأسماء الله تعالى توقيفية{[24345]} لا سيما فيما يوهم{[24346]} ما لا ينبغي{[24347]} .
قوله : { فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ } والتقدير : " وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً " فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم{[24348]} وهي إمَّا عشراً وَثَمان{[24349]} لقوله تعالى : { على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ }{[24350]} وقال وهب : لَبِثَ مُوسَى عند شعيب عليهما السلام{[24351]} ثمانياً{[24352]} وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته{[24353]} .
ويرده قوله تعالى : { فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل ( وَسَارَ بِأَهْلِهِ }{[24354]} أي ){[24355]} :الأجل المشروط عليه في تزويجه .
ومَدْيَن : بَلْدَةُ{[24356]} شُعَيْبٍ على ثَمَان مراحل من مصر{[24357]} .
قوله : { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى } هذا الجار متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل " جِئْتَ " أي جئت موافقاً لما قُدِّر لك ، كذا قدره أبو البقاء{[24358]} ، وهو تفسير معنى ، والتفسير الصناعي : ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين ، كقول الآخر :
نَالَ الخِلاَفَةَ أَوْ جَاءَتْ عَلَى قَدَرٍ{[24359]} *** كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرٍ
ولا بد من حذف في الكلام ، أي : على قدر أمر{[24360]} من الأمور .
وقال محمد بن كعب : جئتَ على القدر الذي قدرت أنك تجيء فيه{[24361]} وقال مقاتل : كان موعداً ( في تقدير الله{[24362]} .
وقال عبد الرحمن بن كيسان{[24363]} : كان على رأس أربعين سنة ، وهو القدر الذي ){[24364]} يوحي فيه إلى الأنبياء . وهذا قول أكثر المفسرين ، أي على الوعد الذي وعده الله وقدَّر أنه يوحي إليه بالرسالة ، وهو أربعون سنة{[24365]} .