فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

{ إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ } ظرف لألقيت ، أو لتصنع ، ويجوز أن يكون بدلاً من { إِذْ أَوْحَيْنَا } وأخته اسمها مريم { فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ } وذلك أنها خرجت متعرّفة لخبره ، فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة ، فقالت لهما هذا القول ، أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه ؟ فقالا لها : ومن هو ؟ قالت : أمي ، فقالا : هل لها لبن ؟ قالت : نعم لبن أخي هارون ، وكان هارون أكبر من موسى بسنة . وقيل : بأكثر ، فجاءت الأم فقبل ثديها ، وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها ، وهذا هو معنى : { فرجعناك إلى أُمّكَ } وفي مصحف أبيّ : «فرددناك » ، والفاء فصيحة . { كَي تَقَرَّ عَيْنُها } قرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد عنه : «كي تقرّ » بكسر القاف ، وقرأ الباقون بفتحها . قال الجوهري : قررت به عيناً قرّة وقروراً ، ورجل قرير العين ، وقد قرّت عينه تقرّ وتقرّ ، نقيض سخنت ، والمراد بقرّة العين : السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم عليها فراقه . { وَلاَ تَحْزَنْ } أي لا يحصل لها ما يكدّر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب ، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرّت عينها بزواله لقدّم نفي الحزن على قرّة العين ، فيحمل هذا النفي للحزن على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك ، ويمكن أن يقال : إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين . وقيل : المعنى : ولا تحزن أنت يا موسى بفقد إشفاقها ، وهو تعسف { وَقَتَلْتَ نَفْساً } المراد بالنفس هنا : نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه ، وكان قتله له خطأ { فنجيناك مِنَ الغم } أي الغمّ الحاصل معك من قتله خوفاً من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعاً ؛ وقيل : الغمّ هو القتل بلغة قريش ، وما أبعد هذا { وفتناك فُتُوناً } الفتنة تكون بمعنى المحنة ، وبمعنى الأمر الشاقّ ، وكل ما يبتلى به الإنسان ، والفتون يجوز أن يكون مصدراً كالثبور والشكور والكفور ، أي ابتليناك ابتلاءً ، واختبرناك اختباراً ، ويجوز أن يكون جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجور في حجرة وبدور في بدرة ، أي خلصناك مرّة بعد مرّة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن يصطفيه الله لرسالته . ولعلّ المقصود بذكر تنجيته من الغمّ الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو : الامتنان عليه بصنع الله سبحانه له ، وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } قال الفراء : تقدير الكلام : وفتناك فتوناً ، فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين ، ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل ، وكذا في كلام العرب فإنهم يحذفون كثيراً من الكلام إذا كان المعنى معروفاً . ومدين هي بلد شعيب ، وكانت على ثماني مراحل من مصر ، هرب إليها موسى فأقام بها عشر سنين ، وهي أتمّ الأجلين . وقيل : أقام عند شعيب ثمان وعشرين سنة ، منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب ، ومنها ثماني عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له ، والفاء في : { فَلَبِثْتَ } تدل على أن المراد بالمحن المذكورة : هي ما كان قبل لبثه في أهل مدين { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى } أي في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبياً ، أو على مقدار من الزمان يوحى فيه إلى الأنبياء ، وهو رأس أربعين سنة ، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به . قال الشاعر :

نال الخلافة إذ كانت له قدرا *** كما أتى ربه موسى على قدر

وكلمة : «ثم » المفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدّة ، وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرّق غنمه ونحو ذلك .

/خ44