السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

تنبيه : { ولتصنع } معطوف على علة مضمرة مثل ليتلطف بك ولتصنع أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك ، وقرأ بفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون .

المنة الرابعة قوله تعالى : { إذ تمشي أختك } والعامل في { إذ } ألقيت أو تصنع ويجوز أن يكون بدلاً من { إذ أوحينا } واستشكل بأنّ الوقتين مختلفان متباعدان وأجيب : بأنه يصح مع اتساع الوقت كما يصح أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا فتقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أوّلها وأنت في آخرها { فتقول هل أدلكم على من يكفله } يروى أنّ أخته واسمها مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت لهم ذلك فقالوا نعم فجاءت بالأمّ فقبل ثديها فذلك قوله تعالى : { فرجعناك إلى أمّك كي تقرّ عينها } بلقائك ورؤيتك { ولا تحزن } أي : هي بفراقك أو أنت بفراقها وفقد إشفاقها ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع .

المنة الخامسة : قوله تعالى : { وقتلت نفساً } قال ابن عباس : هو الرجل القبطي الذي قتله خطأً بأن وكزه حين استغاثه الإسرائيلي إليه قال الكسائي : كان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة { فنجيناك من الغمّ } أي : من غم قتله خوفاً من اقتصاص فرعون كما قال تعالى في آية : { فأصبح في المدينة خائفاً يترقب } [ القصص ، 18 ] بالمهاجرة إلى مدين .

المنة السادسة : قوله تعالى : { وفتناك فتوناً } قال ابن عباس : اختبرناك اختباراً وقيل : ابتليناك ابتلاءً ، قال ابن عباس : الفتون وقوعه في محنة بعد محنة وخلصه الله تعالى منها أوّلها أنّ أمّه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمّه ثم أخذه بلحية فرعون حتى همّ بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الجوهرة ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفاً .

فإن قيل : إنه تعالى عدد أنواع مننه على موسى في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع { وفتناك فتونا } ؟

أجيب : بجوابين الأوّل : { فتناك } أي : خلصناك تخليصاً من قولهم فتنت الذهب إذا أردت تخليصه من الفضة أو نحوها . الثاني : أنّ الفتنة تشديد المحنة يقال فتن فلان عن دينه إذا اشتدّت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى : { فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله } [ العنكبوت ، 10 ] وقال تعالى : { ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون 2 ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين } [ العنكبوت : 2 ، 3 ] ولما كان التشديد في المحنة يوجب كثرة الثواب عده الله تعالى من جملة النعم وتقدّم تفسير ابن عباس وهو قريب من ذلك ، فإن قيل : هل يصح إطلاق الفتان على الله تعالى اشتقاقاً من قوله تعالى : { وفتناك فتونا } ؟ أجيب : بأنه لا يصح لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لاسيما فيما يوهم ما لا ينبغي .

المنة السابعة : قوله تعالى : { فلبثت سنين في أهل مدين } والتقدير وفتناك فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم عند شعيب عليه السلام وتزوّجت بابنته وهي إمّا عشر أو ثمان لقوله : { على أن تأجرني ثمان حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك } [ القصص ، 27 ] وقال وهب : لبث موسى عند شعيب ثماناً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته فإنه قضى أوفى الأجلين والآية دالة على أنه لبث عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر كما قاله الرازي وإن قال ابن عادل يرده قوله تعالى : { فلما قضى موسى الأجل } [ القصص ، 29 ] أي : الأجل المشروط عليه في تزويجه وسار بأهله ومدين بلدة شعيب على ثمان مراحل من مصر { ثم جئت على قدر } أي : على القدر الذي قدّرت أنك تجي فيه لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر وقال عبد الرحمن بن كيسان على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه للأنبياء وهذا قول أكثر المفسرين أي : على الموعد الذي وعد الله وقدّر أنه يوحي إليه بالرسالة وهو أربعون سنة وكرّر تعالى قوله : { يا موسى } عقب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك .