الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

قوله:"إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ" يقول تعالى ذكره: حين تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك، ثم تأتي من يطلب المراضع لك، فتقول: هل أدلكم على من يكلفه؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله "إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ "استغناء بدلالة الكلام عليه...

عن ابن إسحاق، قال: قالت، يعني أمّ موسى لأخته: قصّيه فانظري ماذا يفعلون به، فخرجت في ذلك "فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه، فلا يؤتى بامرأة، فيقبل ثديها، فيرمضهم ذلك، فيؤتى بمرضع بعد مرضع، فلا يقبل شيئا منهم، فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم عليه "هَلْ أدُلّكُمْ عَلى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لكُم وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ" أي لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرّة الملك، وعنى بقوله: "هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ" هل أدلكم على من يضمه إليه فيحفظه ويرضعه ويربيه...

وقوله: "فَرَجَعْناكَ إلى أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلا تَحْزَن" يقول تعالى ذكره: فرددناك إلى أمك بعد ما صرت في أيدي آل فرعون، كيما تقرّ عينها بسلامتك ونجاتك من القتل والغرق في اليم، وكيلا تحزن عليك من الخوف من فرعون عليك أن يقتلك... وقوله: "وَقَتَلْتَ نَفْسا" يعني جلّ ثناؤه بذلك: قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيلي، فوكزه موسى.

وقوله: "فَنَجّيْناكَ مِنَ الغَمّ" يقول تعالى ذكره: فنجيناك من غمك بقتلك النفس التي قتلت، إذ أرادوا أن يقتلوك بها فخلصناك منهم، حتى هربت إلى أهل مدين، فلم يصلوا إلى قتلك وقوَدك...

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله "وَفَتَنّاكَ فُتُونا"؛ فقال بعضهم: ابتليناك ابتلاء واختبرناك اختبارا... عن مجاهد، قوله: "فُتُونا" قال: بلاءً، إلقاؤه في التابوت، ثم في البحر، ثم التقاط آل فرعون إياه، ثم خروجه خائفا...

وقال آخرون: معنى ذلك: أخلصناك... عن مجاهد "وَفَتَنّاكَ فُتُونا" أخلصناك إخلاصا...

وقد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة، وأنها الابتلاء والاختبار بالأدلة المُغنية عن الإعادة في هذا الموضع.

وقوله: "فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أهْلِ مَدْيَنَ" وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تمامه اكتفاء بدلالة ما ذكر عما حذف. ومعنى الكلام: وفتناك فتونا، فخرجت خائفا إلى أهل مدين، فلبثت سنين فيهم.

وقوله: "ثُمّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسَى" يقول جلّ ثناؤه: ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون رسولاً ولمقداره... عن مجاهد، قال: "عَلى قَدَرٍ يا مُوسَى" قال: موعد.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

"وفتناك فتونا"... والمعنى إنا عاملناك معاملة المختبر حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

... البلاء على حَسَبِ قوة صاحبه وضعفه، فكلما كان المرء أقوى كان بلاؤه أوفى، وكلما كان أضعف كان بلاؤه أخف. وكانت أمُّ موسى ضعيفةً فَرَدَّ إليها وَلَدَها بعد أيام، وكان يعقوبُ أقوى في حاله فلم يُعِدْ إليه يوسفَ إلا بعد سنين طويلة...

{وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}: استخلصناكَ لنا حتى لا تكون لغيرنا...

{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}: أي عَدَدْنا أيامَ كونك في مدين شعيب، وكان أهل حضرتنا من الملائكة الذين عرفوا شرَفَكَ ومحبَّتَكَ منتظرين لك؛ فجئتَ على قَدَرٍ. ويقال إنَّ الأَجَل إذا جاء للأشياء فلا تأخيرَ فيه ولا تقديم...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فُتُوناً}... أي فتناك ضروباً من الفتن...والفتنة: المحنة، وكل ما يشق على الإنسان وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة...

{ثَمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى} أي سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك وفي وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأخر.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

الفتنة تشديد المحنة... ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب لا جرم عده الله تعالى من جملة النعم.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ثم ذكر ظرف الصنع فقال: {إذ} أي حين {تمشي أختك} أي في الموضع الذي وضعوك به لينظروا لك مرضعة {فتقول} بعد إذ رأتك، لآل فرعون: {هل أدلكم على من يكفله} أي يقوم بمصالحه من الرضاع والخدمة، ناصحاً له، فقالوا: نعم! فجاءت بأمك فقبلت ثديها {فرجعناك} أي فتسبب عن قولها هذا أن رجعناك {إلى أمك} حين دلتهم عليها {كي تقر} أي تبرد وتسكن {عينها} وتربيك آمنة عليك غير خائفة، ظاهرة غير مستخفية {ولا تحزن} بفراقك أو بعدم تربيتها لك وبذلها الجهد في نفعك. {وقتلت نفساً} أي بعد أن صرت رجلاً من القبط دفعاً عن رجل من قومك فطلبت بها وأرادوا قتلك {فنجيناك} بما لنا من العظمة {من الغم} الذي كان قد نالك بقتله خوفاً من جريرته، بأن أخرجناك مهاجراً لديارهم نحو مدين {وفتناك فتوناً} أي خلصناك من محنة بعد محنة مرة بعد مرة، على أنه جمع فتن أو فتنة...

{فلبثت سنين} أي كثيرة {في أهل مدين} مقيماً عند نبينا شعيب عليه السلام يربيك بآدابه، وصاهرته على ابنته {ثم جئت} أي الآن {على قدر} أي وقت قدّرته في الأزل لتكليمي لك، وهو بلوغ الأشد والاستواء، وإرسالك إلى فرعون لأمضي فيه قدري الذي ذبح أبناء بني اسرائيل خوفاً منه، فجئت غير مستقدم ولا مستأخر {يا موسى}.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

ومعنى {جئتَ} حضرتَ لدينا، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي. و (على) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه. والقدَر: تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل المصادفة، فيكون غير ملائم أو في ملاءَمتِه خلَل...

فقوله {ثم جئت على قدر يا موسى} يفيد أنّ ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدّراً من الله تقديراً مناسباً متدرجاً، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدّرها الله وحددها تحديداً منظماً لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير. فهذا تقدير خاص، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلّمه الله منه. وليس المراد القَدر العام الذي قدّره الله لتكوين جميع الكائنات، فإن ذلك لا يُشعر بمزية لموسى عليه السلام.