البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

{ إذ تمشي أختك } قيل اسمها مريم سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة ، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى ، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة لعلها تقع على خبره ، فبصرت به في طوافها فقالت { هل أدلكم على من يكفله لكم وهم له ناصحون } فتعلقوا بها وقالوا : أنت تعرفين هذا الصبيّ ؟ فقالت : لا ، ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها ، فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها فسرّت آسية وقالت لها : كوني معي في القصر ، فقالت : ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي قالت : نعم ، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة ، ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا ، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس ، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب ، فسرّت به ودخلت به على فرعون ليراه وليهبه فأعجبه وقرّبه ، فأخذ موسى بلحية فرعون وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة .

والعامل في { إذ } قال ابن عطية فعل مضمر تقديره ومننا إذ .

وقال الزمخشري العامل في { إذ تمشي } { ألقيت } أو تصنع ، ويجوز أن يكون بدلاً من { إذ أوحينا } فإن قلت : كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان ؟ قلت : كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا ، فتقول : وأنا لقيته إذ ذاك .

وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها انتهى .

وليس كما ذكر لأن السنة تقبل الاتساع فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصصيهما بما أضيفا إليه فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول ، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقوع مشي الأخت فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة .

وقال الحوفي : { إذ } متعلقة بتصنع ، ولك أن تنصب { إذ } بفعل مضمر تقديره واذكر .

وقرأ الجمهور { كي تَقَرُّ } بفتح التاء والقاف .

وقرأت فرقة بكسر القاف ، وتقدم أنهما لغتان في قوله { وقري عيناً } وقرأ جناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنياً للمفعول .

و { قتلت نفساً } هو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة ، واغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون ، فغفر الله له باستغفاره حين قال { رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي } ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغمّ ما يغمّ على القلب بسبب خوف أو فوات مقصود ، والغمّ بلغة قريش القتل ، وقيل : من غم التابوت .

وقيل : من غم البحر ، والظاهر أنه من غم القتل حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين .

والفتون مصدر جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي { فتناك } ضروباً من الفتن ، والفتنة المحنة وما يشق على الإنسان .

وعن ابن عباس خلصناك من محنة بعد محنة .

ولد في عام كان يقتل فيه الولدان ، وألقته أمه في البحر وهمّ فرعون بقتله ، وقتل قبطياً وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة انتهى .

وهذه الفتون اختبره بها وخلصه حتى صلح للنبوة وسلم لها والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين .

وقال وهب : ثمان وعشرون سنة منها مهر ابنته وبين مصر ومدين ثمان مراحل وفي الكلام حذف والتقدير { وفتناك فتوناً } فخرجت خائفاً إلى { أهل مدين } فلبثت سنين وكان عمره حين ذهب إلى مدين اثني عشر عاماً وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب ، ثم ثمانية عشر عاماً بعد بنائه بامرأته بنت شعيب ، وولد له فيها فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة الله إرسال الأنبياء على رأسها .

{ ثم جئت } إلى المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك .

{ على قدر } أي وقت معين قدّرته لم تتقدمه ولم تتأخر عنه .

وقيل على مقدار من الزمان يوحى إلى الأنبياء فيه وهو الأربعون .

وقال الشاعر :

نال الخلافة أو جاءت على قدر*** كما أتى ربه موسى على قدر