فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِذۡ تَمۡشِيٓ أُخۡتُكَ فَتَقُولُ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰ مَن يَكۡفُلُهُۥۖ فَرَجَعۡنَٰكَ إِلَىٰٓ أُمِّكَ كَيۡ تَقَرَّ عَيۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَۚ وَقَتَلۡتَ نَفۡسٗا فَنَجَّيۡنَٰكَ مِنَ ٱلۡغَمِّ وَفَتَنَّـٰكَ فُتُونٗاۚ فَلَبِثۡتَ سِنِينَ فِيٓ أَهۡلِ مَدۡيَنَ ثُمَّ جِئۡتَ عَلَىٰ قَدَرٖ يَٰمُوسَىٰ} (40)

{ إذ تمشي أختك } وكانت شقيقته واسمها مريم وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية { فتقول هل أدلكم على من يكفله } وذلك أنها خرجت متعرفة لخبره فوجدت فرعون وامرأته آسية يطلبان له مرضعة فقالت لهما هذا القول أي هل أدلكم على من يضمه إلى نفسه ويربيه ويكمل له رضاعه ؟ وكانت أمه قد أرضعته ثلاثة أشهر ؛ وقيل أربعة قبل إلقائه في اليم ، فقالا لها ومن هو ؟ قالت أمي ، فقالا : هل لها لبن ، قالت نعم ابن أخي هرون أكبر من موسى بسنة ، وقيل بأكثر فجاءت الأم فقبل ثديها وكان لا يقبل ثدي مرضعة غيرها وهذا هو معنى : { فرجعناك إلى أمك } .

وفي مصحف أبيّ فرددناك وهذه هي المنة الرابعة .

{ كي تقر عينها } بلقائك قال الجوهري : قررت به عينا قرة وقرورا ورجل قرير العين وقد قرت عينه تقر وتقر نقيض سخنت ، والمراد بقرة العين السرور برجوع ولدها إليها بعد أن طرحته في البحر وعظم فراقه عليها { ولا تحزن } حينئذ أي لا يحصل لها ما يكدر ذلك السرور من الحزن بسبب من الأسباب ، ولو أراد الحزن بالسبب الذي قرت عنها بزواله لقدم نفي الحزن على قرة العين فيحمل هذا النفي على ما يحصل بسبب يطرأ بعد ذلك ، ويمكن أن يقال إن الواو لما كانت لمطلق الجمع كان هذا الحمل غير متعين ، قال البيضاوي : ولا تحزن أنت يا موسى على فراقها وفقد إشفاقها وهو تعسف .

والمنة الخامسة قوله : { وقتلت نفسا } المراد بالنفس هنا نفس القبطي الذي وكزه موسى فقضى عليه واسمه { قاب قان } وكان طباخا لفرعون وكان قتله له خطأ وكان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة ، وقيل ثلاثين سنة { فنجيناك من الغم } أي الغم الحاصل معك من قتله خوفا من العقوبة الأخروية أو الدنيوية أو منهما جميعا ، وقيل من جهة فرعون لا من جهة قتله لأنه كان كافرا وأيضا قتله له كان خطأ ، وقيل الغم هو القتل بلغة قريش وما أبعده هذا .

والمنة السادسة قوله : { وفتناك فتونا } الفتنة تكون بمعنى المحنة وبمعنى الأمر الشاق ، وكل ما يبتلى به الإنسان ، والفتون مصدر كالثبور والسكون والكفور أي اختبرناك اختبارا وابتليناك ابتلاء أو فتونا من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتن على ترك الاعتداد بتاء التأنيث كحجوز في حجزة ، وبدور في بدرة أي أخلصناك مرة بعد مرة مما وقعت فيه من المحن التي سبق ذكرها قبل أن نصطفيك لرسالتنا أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ، ثم منعه من الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله ؛ ثم تناوله الجمرة بدل الجوهر ، ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفا .

وقد أخرج عبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس أثرا طويلا في تفسير هذه الآية فمن أحب استيفاء ذلك فلينظر في كتاب التفسير من سنن النسائي ولعل المقصود بذكر تنجيته من الغم الحاصل له بذلك السبب وتنجيته من المحن هو الامتنان عليه بصنع الله سبحانه وتقوية قلبه عند ملاقاة ما سيقع له من ذلك مع فرعون وبني إسرائيل .

والمنة السابعة قوله : { فلبثت سنين في أهل مدين } قال الفراء : تقدير الكلام وفتناك فتونا فخرجت إلى أهل مدين فلبثت سنين ومثل هذا الحذف كثير في التنزيل ، وكذا في كلام العرب ، فإنهم يحذفون كثيرا من الكلام إذا كان المعنى معروفا ، ومدين هي بلد شعيب ، وكانت على ثمان مراحل من مصر هرب إليها موسى فأقام بها عشرين سنة وهي أتم الأجلين وقيل أقام عند شعيب ثمانية وعشرين سنة ، منها عشر مهر امرأته ابنة شعيب ، ومنها ثمان عشرة سنة بقي فيها عنده حتى ولد له .

{ ثم جئت على قدر يا موسى } أي في وقت سبق في قضائي وعلمي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبيا أو على ميقات ومقدار من الزمان يوحي فيه إلى الأنبياء قاله ابن عباس ، وهو رأس أربعين سنة ، أو على موعد قد عرفته بإخبار شعيب لك به قاله مجاهد وقتادة قال الشاعر :

نال الخلافة إذا كانت له قدرا كما أتى ربه موسى على قدر

وكلمة ثم مفيدة للتراخي للدلالة على أن مجيئه عليه السلام كان بعد مدة وذلك بسبب ما وقع له من ضلال الطريق وتفرق غنمه ونحو ذلك ، وعلى بمعنى مع .