ثم قال : /{ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله }[ 40 ] .
أي : ولتصنع على عيني حين تمشي أختك{[45044]} .
وفي الكلام حذف . والتقدير : إذ تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك ثم يأتي من يطلب المراضع لك فتقول : هل أدلكم على من يكفله ؟
قال السدي : لما ألقته أمه في اليم ، قالت لأخته : قصيه ، فلما التقطه آل فرعون ، أرادوا له المرضعات ، فلم يقبل أحدا من النساء ، وجعل{[45045]} النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع ، وأبى{[45046]} أن يأخذه فقالت أخته : هل أدلكم على أهل البيت يكفلونه لكم ، وهم له ناصحون . فأخذوها وقالوا لها : إنك قد{[45047]} عرفت هذا الغلام ، فدلينا على أهله .
قالت : ما أعرفه ولكني إنما{[45048]} قلت : هم للملك ناصحون{[45049]} .
ومعنى : يكفله : يضمه إليه ويرضعه{[45050]} .
وروي أن موسى عليه السلام لما خرج من التابوت بكى وطلب اللبن فطلب له النساء ، فلم يقبل أحدا ، فشق ذلك على فرعون ، واغتم له ، وقلق ، وجعل يبعث إلى كل مرضعة ، ولم{[45051]} يقبل أحدا ، فعند ذلك ، جاءت أخت موسى صلى الله عليه وسلم فقالت : هل أدلكم على من يرضعه{[45052]} ؟ فقيل لها{[45053]} : هاتها ، فجاءت بأم موسى ، فقبل ثديها ، فطابت نفس فرعون ومضت به معها ، آمنة عليه مما كانت تخافه ، وذلك وعد الله لها ، وقوله لها : { إنا رادوه إليك } وهو قوله : { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها } أي رددناك إلى أمك بعد أن كنت في أيدي آل فرعون كي تقر عينها ، أي : تقر عينها بسلامتك من القتل والغرق ، ولا تحزن عليك من الخوف ومن فرعون أن يقتلك .
قال ابن إسحاق{[45054]} : لما قالت أخت موسى ما قالت ، قالوا : هاته ، فأتت أمه فأخبرتها ، فانطلقت معها حتى أتتهم فناولتها إياه فوضعه في حجرها ، وأخذ ثدييها ، فسروا بذلك ، وردوه إلى أمه تكفله ، لطفا من الله لها ، وصار{[45055]} موسى وأمه كأنهم من أهل بيت فرعون في الأمان من القتل وغيره . وكان على فراش فرعون وسريره{[45056]} متغذيا بما يتغذى به الملك . وهذا{[45057]} من بديع لطفه ، لا إله إلا هو .
ويروى عن ابن عباس أنه قرأ : ( تقر بكسر القاف ، وهي لغة .
ثم قال : { وقتلت نفسا فنجيناك من الغم }[ 40 ] .
يعني : قتله القبطي إذ{[45058]} استغاثه عليه الإسرائيلي : { فنجيناك من الغم }أي : من غمك بقتلك النفس إذا أرادوا أن يقتلوك . فخلصناك منهم حين هربت إلى أهل مدين .
روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ{[45059]} " .
ثم قال : { وفتناك فتونا } قال ابن عباس : {[45060]} معناه : اختبرناك اختبارا . وعنه{[45061]} ابتليناك ابتلاء .
وعن ابن عباس أيضا : أنه إنجاؤه موسى من القوم{[45062]} . ومن اليم ومن الذبح حين أخذ بلحية فرعون ، ومن القتل حين قتل القبطي .
وذكر ابن جبير عن ابن عباس{[45063]} حديثا طويلا في قصة موسى عليه السلام معناه : أن فرعون تذاكر هو وجلساؤه ، ما وعد الله إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكا ، فخافوا ذلك فأتمروا بينهم أن يذبح{[45064]} كل مولود من
بني إسرائيل ، فذبحوا{[45065]} كل من وجدوا ، وتمادوا على ذلك ، فقال بعضهم :
يوشك أن يفنى بنو إسرائيل لذبحكم الصغار وموت الكبار بآجالهم فتبقون
لمباشرة الأعمال والخدمة التي تكفيهم{[45066]} إياها بنو إسرائيل ، فأجمعوا رأيهم على أن يقتلوا عاما ويتركوا عاما لئلا{[45067]} يفنى بنو إسرائيل ، ولئلا{[45068]} يكثروا ، فحملت أم موسى هارون في السنة التي{[45069]} لا يذبح فيها أحد فولدته علانية آمنة . وحملت بموسى في العام الثاني ، وفيه الذبح ، فوقع في قلبها الهم والحزن . قال ابن عباس : فذلك من الفتون مما دخل على موسى في بطن أمه . فأوحى الله تعالى ذكره إليها ألا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين . وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت ، ثم تلقيه في اليم ، ففعلت ذلك ، ثم أتاها إبليس ، فوسوس إليها ، وقال : لو ذبح ولدك في بيتك لكنت توارينه وتسترينه كان أحب إليك مما ألقيته بيدك إلى حيتان البحر ودوابه ، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون ، فرأينه ، فأخذنه ، فهممن بفتح التابوت ثم خفن أن يكون في التابوت مال فلا يصدقن عليه/ ، فمررن به على حاله إلى امرأة فرعون ، ففتحت التابوت ، فإذا بغلام ، فألقى الله عليه منها محبة لم يلق مثلها على أحد ، وأصبح فؤاد أم موسى فارغا من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى ، فأتى الذباحون إلى امرأة فرعون ليذبحوه ، فصرفتهم حتى تستوهبه من فرعون ، فوهبها فرعون إياه ، ومنعهم من ذلك . وذلك من الفتون .
وذكر ابن عباس ، أنها لما أتت به إلى فرعون قالت : قرة عين لي ولك . قال فرعون : يكون لك ، وأما أنا فلا حاجة لي فيه{[45070]} . فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال{[45071]} : " والذي حلف{[45072]} له ، لو أقر فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت هي به لهداه الله به كما هدى به امرأتك . ولكن اله تعالى حرمه ذلك .
وروي{[45073]} أن امرأة فرعون كان لها جوار لا تشرب الماء إلا من استقائهن{[45074]} ، فأتين يوما إلى ساحل النيل{[45075]} ليأخذن الماء ، فوجدن التابوت ، فاتفقن على أن لا يفتحن التابوت ، وأن يمضين به إلى مولاتهن على حاله ، فذهبن به إلى امرأة فرعون ففتحته ، فوجدت فيه صبيا لم تر مثله قط ، فألقى الله في قلبها المحبة له ، فأخذته ودخلت به على فرعون ، وقالت{[45076]} له : قرة عين لي ولك فقال فرعون : أما لك فنعم ، وأما لي ، فلا .
قال{[45077]} النبي صلى الله عليه وسلم : " لو قال فرعون نعم هو قرة عين لي لآمن " .
فقالت له : فهبه لي ، لا تقتله . فوهبه لها . فطلبت له المراضع فلم يقبل على ثدي امرأة ، وكان من أمره ما قص الله علينا .
قال ابن عباس{[45078]} في حديث طويل معناه : أن امرأة فرعون طلبت له الرضاعة{[45079]} ، فلم يقبل على ثدي أحد فغمها ذلك حتى أخرجته إلى السوق تطلب له{[45080]} مرضعة ، فأتت أخته فقالت : هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون . فأخذوها وقالوا : ما نصحهم له{[45081]} ؟ هل تعرفونه ، فشكوا{[45082]} في ذلك .
قال ابن عباس{[45083]} : وذلك من الفتون . فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في القرب من فرعون ورجاء منفعته ، فتركوها ، فانطلقت إلى أمه{[45084]} ، فجاءت معها ، فلما وضعته في حجرها ترامى إلى ثديها{[45085]} حتى امتلأ جنباه ، وانطلقت البشرى إلى امرأة فرعون أن قد وجدنا لابنك مرضعة فوجهت وراءها ، وجيء بها وبه فقالت لها : امكثي عندي ترضعين ابني هذا ، فإني لم أحب حبه شيئا قط ، فأبت أم موسى وتعاسرت عليها في القيام{[45086]} عندها ، وتذكرت ما وعدها الله من رده عليها ، وأن الله منجز وعده ، بابنها إلى بيتها من يومها ، فأنبته الله نباتا حسنا ، فكان بنو إسرائيل يمتنعون من الظلم والسخرة بذمام موسى ، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أرني ولدي{[45087]} ، فوعدتها بالإتيان به ليوم{[45088]} بعينه ، فقالت امرأة فرعون لخواصها{[45089]} وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة ، فلما أتت به أمه ، لم تزل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فأكرمته هي أيضا ونحلته وأعجبها ما رأت{[45090]} من حسن أثرها عليه ، وانطلقت به إلى فرعون ليكرمه وينحله ، فدخلت به عليه ، وجعلته في حجره فتناول موسى لحية فرعون حتى مدها ، فقال عدو من أعداء الله لفرعون : هذا من{[45091]} وعد الله إبراهيم أنه سيصرعك ويعلوك فأراد ذبحه . قال ابن عباس : وذلك من الفتون . فقالت امرأته : قد وهبته لي فما بدا لك منه . قال{[45092]} : ألا ترينه يزعم أنه سيصرعني ويعلوني . فقالت : اجعل بيني وبينك أمرا تعرف به الحق . ائت بجمرتين ولؤلؤتين ، فقربهن إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين فهو يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين [ فهو لا يعقل ]{[45093]} ففعل ذلك ، فتناول الجمرتين ، فصرفه الله تعالى عن قتله ، فأقام حتى بلغ مبلغ الرجال ، وانتفع به بنو إسرائيل وامتنعوا به من السخرة والظلم . فبينما هو يمشي في ناحيةن{[45094]} المدينة إذ هو برجلين يقتتلان ، أحدهما من آل فرعون ، والآخر من بني إسرائيل ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني . وقد ضرب الفرعوني الإسرائيلي ، فغضب موسى واشتد غضبه لمعرفته لمنزلة الإسرائيلي وظلم الفرعوني له ، فوكز موسى الفرعوني فقتله . ولم يرهما أحد إلا الله ، فقال موسى صلى الله عليه وسلم حين قتله : هذا من عمل الشيطان ، ثم استغفر{[45095]} الله من قتله ، فغفر له . وأصبح موسى خائفا يستمع الأخبار ، فبحث القوم عن{[45096]} قاتل الفرعوني فما وجدوا أحدا يخبر به . فمر موسى بذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا آخر فرعونيا ، فاستغاثه أيضا الإسرائيلي ، فقال موسى للإسرائيلي : إنك{[45097]} لغوي مبين . ثم مد يده للفرعوني ليبطش به ، فظن الإسرائيلي أنه إياه يريد ، لما سمعه قال : إنك لغوي مبين . فقال : يا موسى ، أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس ، فانطلق الفرعوني إلى قومه ، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي ، فخرجوا في طلب موسى . وجاءه{[45098]} رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقا حتى سبقهم{[45099]} ، فأنذر موسى ، قال ابن عباس : وذلك من الفتون .
وقال الضحاك : { وفتناك فتونا } : أي : بلاء على{[45100]} بلاء{[45101]} .
وقال مجاهد : هو إلقاؤه في التابوت ، ثم في اليم ، ثم التقاط فرعون إياه ، ثم خروجه خائفا{[45102]} .
قوله تعالى ذكره : { فلبثت سنين في أهل مدين }[ 40 ] إلى قوله : { يتذكر أو يخشى }[ 43 ] .
في الكلام حذف واختصار . والتقدير : وفتناك فتونا ، فخرجت خائفا إلى مدين ، فلبثت سنين فيهم .
قيل{[45103]} : عشر سنين ، كان فيهم في خدمة أجرة مهر زوجته .
وقوله : { ثم جئت على قدر بموسى }[ 40 ] .
أي : جئت للوقت{[45104]} الذي أردنا إرسالك إلى فرعون فيه . هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم{[45105]} .