معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

قوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } . الآية ، اختلفوا في سبب نزول هذه الآية ، فقال قوم : نزلت في أهل بئر معونة ، وهم سبعون رجلاً من القراء ، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلموا الناس القرآن والعلم ، أميرهم المنذر بن عمرو ، فقتلهم عامر بن الطفيل ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجداً شديداً ، وقنت شهراً في الصلوات كلها يدعو على جماعة من تلك القبائل باللعن والسنين ، فنزلت : ( ليس لك من الأمر شيء ) .

أخبرنا عبد الواحد بن احمد المليحي ، أنا احمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف ، أنا محمد ابن إسماعيل ، أخبرنا حبان بن موسى أخبرنا عبد الله ، يعني ابن المبارك ، أخبرنا معمر عن الزهري قال : حدثني سالم عن أبيه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول : " اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ، فأنزل الله تعالى ( ليس لك من الأمر شيء ) .

قوله تعالى : { أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون } . وقال قوم نزلت يوم أحد .

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، أخبرنا مسلم بن الحجاج ، أخبرنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، أخبرنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في رأسه ، فجعل يسلت الدم عنه ويقول :كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم ، وكسروا رباعيته ، وهو يدعوهم إلى الله عز وجل ، فأنزل الله تعالى( ليس لك من الأمر شيء ) . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ( اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحارث بن هشام ، اللهم العن صفوان بن أمية ، فنزلت : ( ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم ) فأسلموا وحسن إسلامهم . وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن إسحاق لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يوم أحد ما بأصحابهم من جدع الآذان والأنوف ، وقطع المذاكير قالوا : لئن أدالنا الله تعالى منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا ، ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وذلك لعلمه فيهم بأن كثيراً منهم يسلمون . فقوله تعالى ( ليس لك من الأمر شيء ) أي ليس إليك ، فاللام بمعنى إلى ، كقوله تعالى ( ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أي إلى الإيمان قوله تعالى ( أو يتوب عليهم ) قال بعضهم : معناه حتى يتوب عليهم ، أو إلا أن يتوب عليهم ، وقيل : هو نسق على قوله ( ليقطع طرفاً ) ، وقوله ( ليس لك من الأمر شيء ) اعتراض بين الكلامين ونظم الآية ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء بل الأمر أمري في ذلك كله .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

لما جرى يوم " أحد " ما جرى ، وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم مصائب ، رفع الله بها درجته ، فشج رأسه وكسرت رباعيته ، قال " كيف يفلح قوم شجوا نبيهم " وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان بن حرب ، وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو ، والحارث بن هشام ، أنزل الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة الله { ليس لك من الأمر شيء } إنما عليك البلاغ وإرشاد الخلق والحرص على مصالحهم ، وإنما الأمر لله تعالى هو الذي يدبر الأمور ، ويهدي من يشاء ويضل من يشاء ، فلا تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم ، إن اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالإسلام فعل ، وإن اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم ، فإنهم هم الذين ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك ، فعل ، وقد تاب الله على هؤلاء المعينين وغيرهم ، فهداهم للإسلام رضي الله عنهم ، وفي هذه الآية مما يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد ، وأن العبد وإن ارتفعت درجته وعلا قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء فغيره من باب أولى ففيها أعظم رد على من تعلق بالأنبياء أو غيرهم من الصالحين وغيرهم ، وأن هذا شرك في العبادة ، نقص في العقل ، يتركون من الأمر كله له ويدعون من لا يملك من الأمر مثقال ذرة ، إن هذا لهو الضلال البعيد ، وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل إليه ، ولم يذكر منهم سببا موجبا لذلك ، ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده ، من غير سبق سبب من العبد ولا وسيلة ، ولما ذكر العذاب ذكر معه ظلمهم ، ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية ، فقال { أو يعذبهم فإنهم ظالمون } ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته ، حيث وضع العقوبة موضعها ، ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه ،

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

وقوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } توقيف على أن الأمر كله لله ، وهذا التوقيف يقتضي أنه كان بسبب من جهة النبي صلى الله عليه وسلم وروي في ذلك «أنه لما هزم أصحابه وشج في وجهه ، حتى دخلت بعض حلق الدرع في خده وكسرت رباعيته وارتث بالحجارة حتى صرع لجنبه ، تحيز عن الملحمة ، وجعل يمسح الدم من وجهه ويقول : لا يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم »{[3512]} ، هكذا لفظ الحديث من طريق أنس بن مالك ، وفي بعض الطرق ، وكيف يفلح ؟ وفي بعضها أن سالماً مولى أبي حذيفة كان يغسل الدم عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فأفاق وهو يقول : كيف بقوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى الله ؟ فنزلت الآية : بسبب هذه المقالة .

قال القاضي : وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش ، فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم ، فروي أنه دعاء عليهم أو أستأذن في أن يدعو عليهم ، وروى ابن عمر وغيره : أنه دعا على أبي سفيان والحارث بن هشام{[3513]} وصفوان بن أمية{[3514]} باللعنة ، إلى غير هذا من معناه ، فقيل له بسبب ذلك ، { ليس لك من الأمر شيء } أي عواقب الأمور بيد الله ، فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء إلى ربك ، قال الطبري وغيره من المفسرين : قوله : { أو يتوب عليهم } عطف على { يكبتهم } .

قال القاضي : فقوله : { ليس لك من الأمر شيء } اعتراض أثناء الكلام ، وقوله : { أو يتوب } معناه : فيسلمون ، وقوله : { أو يعذبهم } معناه : في الآخرة بأن يوافوا على الكفر ، قال الطبري وغيره : ويحتمل أن يكون قوله { أو يتوب } بمعنى حتى يتوب أو إلى أن يتوب فيجيء بمنزلة قولك : لا أفارقك أو تقضيني حقي ، وكما تقول : لا يتم هذا الأمر أو يجيء فلان ، وقوله تعالى : { ليس لك من الأمر شيء } ليس باعتراض على هذا التأويل ، وإنما المعنى الإخبار لمحمد عليه السلام أنه ليس يتحصل له من أمر هؤلاء الكفار شيء يؤمله إلا أن يتوب عليهم فيسلموا ، فيرى محمد عليه السلام أحد أمليه فيهم ، أو يعذبهم الله بقتل في الدنيا ، أو بنار في الآخرة أو بهما ، فيرى محمد صلى الله عليه وسلم الأمل الآخر ، وعلى هذا التأويل فليس في قوله : { ليس لك من الأمر شيء } ردع كما هو في التأويل الأول ، وذلك التأويل الأول أقوى ، وقرأ أبي بن كعب ، «أو يتوبُ أو يعذبُ » ، برفع الباء فيهما ، المعنى : أو هو يتوب ، ثم قرر تعالى ظلم هؤلاء الكفار .

ثم أكد معنى قوله { ليس لك من الأمر شيء } بالقول العام وذكر الحجة الساطعة في ذلك وهي ملكه الأشياء ، إذ ذلك مقتض أن يفعل بحق ملكه ما شاء ، لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه ، وذكر أن الغفران أو التعذيب إنما هو بمشيئته وحسب السابق في علمه ، ثم رجا في آخر ذلك تأنيساً للنفوس وجلباً لها إلى طاعته ، وذلك كله في قوله تعالى : { ولله ما في السموات وما في الأرض ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله غفور رحيم }


[3512]:- أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والطبري والإمام أحمد في مسنده (عن أنس).
[3513]:- هو الحارث بن هشام بن المغيرة، القرشي، المخزومي-أخو أبي جهل، وابن عم خالد بن الوليد، أمه فاطمة بنت الوليد بن المغيرة، وهو ممن شهد بدرا مع المشركين، وكان فيمن انهزم، وعيّره حسان بن ثابت ببيتين، فرد عليه المترجم له بثلاثة أبيات قيل فيها: إنها أحسن ما قيل في الاعتذار من الفرار، أسلم يوم فتح مكة ثم حسن إسلامه، قيل: كانت وفاته في طاعون عمواس: وقيل: استشهد يوم اليرموك. "الإصابة 1/293".
[3514]:- صفوان بن أمية بن خلف أبو وهب الجمحي، أمه صفية بنت معمر جمحية أيضا، قتل أبوه يوم بدر كافرا، وحكي أنه كان إليه أمر الأزلام في الجاهلية، كما حكي أنه فر يوم فتح مكة وأسلمت امرأته فأحضر له ابن عمه عمير بن وهب أمانا من النبي صلى الله عليه وسلم فحضر، وحضر وقعة حنين قبل أن يسلم ثم أسلم، وكان أحد العشرة الذين انتهى إليهم شرف الجاهلية ووصله لهم الإسلام "الإصابة 2/187".