غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ} (128)

121

قوله عز من قائل : { ليس لك من الأمر شيء } فيه قولان : أحدهما وهو الأشهر أنه نزل في قصة أحد عن أنس بن مالك قال : كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد ودمي وجهه فجعل يسيل الدم على وجهه ويقول : كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ وفي رواية : شج رأسه صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص يوم أحد وكسر رباعيته فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول الحديث فنزلت . وفي رواية عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أقواماً فقال : " اللهم العن أبا سفيان ، اللهم العن الحرث بن هشام ، اللهم لعن صفوان بن أمية " فنزلت هذه الآية . وفيها { أو يتوب عليهم } فتاب الله على هؤلاء فحس إسلامهم . وقيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب . وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال : لأمثلن منهم بثلاثين فنزلت ، وقيل : أراد يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله عن ذلك . مروى عن ابن عباس ، وقيل : أراد أن يستغفر للمسلمين الذين عصوا أمره فنزلت . وقال القفال : كل هذه الأمور وقعت يوم أحد فلا يمتنع حمل نزول الآية في الكل .

القول الثاني : وإليه ذهب مقاتل أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جمعاً من خيار الصحابة زهاء سبعين إلى بني عامر ليعلموهم القرآن . فلما وصلوا إلى موضع يقال له بئر معونة ، ذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم . فجزع من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شديداً ودعا على الكفار في القنوت أربعين يوماً يقول بعد ما يرفع رأسه من الركعة الثانية في الصبح : اللهم العن بني لحيان والعن رعلاً وذكوان . اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة . اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف حتى أنزل الله عز وجل { ليس لك من الأمر شيء } ولا يخفى أن ظاهر الآية يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل فعلاً فمنع منه ، وحينئذٍ يتوجه الإشكال بأن فعل ذلك الفعل إن كان من الله تعالى فكيف منعه منه وإلا فهو قدح في عصمته ومناف لقوله :{ وما ينطق عن الهوى }[ النجم :3 ] والجواب أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع مشتغل به كقوله :{ ولا تطع الكافرين }[ الأحزاب :48 ] مع أنه ما أطاعهم وقوله :{ لئن أشركت ليحبطن عملك }[ الزمر :65 ] مع أنه ما أشرك قط . ولعله عليه السلام شاهد من قتل حمزة وغيره ما أورثه حزناً شديداً ، وكان من الممكن أن يحمله على ما لا ينبغي من الفعل والقول ، فنص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته صلى الله عليه وسلم وتأكيداً لطهارته . ولئن سلمنا أنه كان مشغولاً بذلك الفعل والقول فإنه محمول على ترك الأولى ، والنهي إرشاد إلى اختيار الأفضل وأيضاً إن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بمجرد التشهي وإنما هو بطلب الأصلح فالذي يظن به خلاف مسئوله صلى الله عليه وسلم وقد وقع فهو بالحقيقة سؤاله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا سأل الله تعالى أن يجعل لعنه على من لا يستحقه طهراً وزكاة ورحمة والله أعلم . وقوله : { ليس لك من الأمر شيء } معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء ، فإني أعلم بمصالح عبادي ، أو المراد الأمر الذي هو خلاف النهي أي ليس لك من أمر خلقي شيء إلا ما يكون أمري وحكمي . وقوله : { أو يتوب } منصوب بإضمار " أن " . و " أن يتوب " في حكم اسم معطوف بأو على الأمر أي ليس لك من أمرهم شيء ، أو من التوبة عليهم ، أو من تعذيبهم . ويجوز أن يكون معطوفاً على { شيء } والحاصل منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل فعل أو قول إلا ما كان بإذنه وأمره . وفيه إرشاد إلى كمال درجات العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار ملكه تعالى وملكوته .

وعن الفراء والزجاج أن قوله : { أو يتوب عليهم } عطف على { ليقطع } وما بعده . وقوله : { ليس لك من الأمر شيء } كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه كما تقول : ضربت زيداً فاعلم ذاك وعمراً . فيكون المعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر . وقيل : " أو " بمعنى " إلا أن " كقولك : لألزمنك أو تعطيني حقي . والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم . ثم التوبة عليهم مفسرة عند أهل السنة بخلق الندم فيه على ما مضى ، وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل . وأكدوا هذا الظاهر ببرهان عقلي وهو أن الندم كراهة تحصل في القلب عما سلف منه ، والعزم إرادة تتعلق بترك ذلك الفعل فيما يستقبل . فلو كانت هذه الإرادة فعل العبد لافتقر في فعلها إلى إرادة أخرى وتسلسل ، فهو إذن بخلق الله تعالى . وأما المعتزلة ففسروا التوبة عليهم إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة منهم . وقوله : { فإنهم ظالمون } تعليل حسن التعذيب بسبب شركهم أو عصيانهم .

/خ129