قوله تعالى : { إنما الصدقات للفقراء والمساكين } الآية ، بين الله تعال في هذه الآية أهل سهمان الصدقات وجعلها لثمانية أصناف . وروي عن زياد بن الحارث الصدائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتاه رجل وقال : أعطني من الصدقة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزاها ثمانية أجزاء ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك " . قوله تعالى { للفقراء والمساكين } . فأخذ أصناف الصدقة : الفقراء ، والثاني : المساكين . واختلف العلماء في صفة الفقير والمسكين ، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة والزهري : الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين : الذي يسأل . وقال ابن عمر : ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة ، ولكن من أنقى نفسه وثيابه لا يقدر على شيء ، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف . وقال قتادة ، الفقير : المحتاج الزمن ، والمسكين : الصحيح المحتاج . وروي عن عكرمة أنه قال : الفقراء من المسلمين ، والمساكين من أهل الكتاب . وقال الشافعي : الفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا ، زمنا كان أو غير زمن ، والمسكين من كان له مال أو حرفة ولا يغنيه ، سائلا أو غير سائل . فالمسكين عنده أحسن حالا من الفقير لأن الله تعالى قال : { أما السفينة فكانت لمساكين } [ الكهف79 ] أثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة . وعند أصحاب الرأي : الفقير أحسن حالا من المسكين . وقال القتيبي : الفقير : الذي له البلغة من العيش ، والمسكين : الذي لا شيء له . وقيل : الفقير من له المسكن والخادم ، والمسكين من لا ملك له . وقالوا : كل محتاج إلى شيء فهو مفتقر إليه وإن كان غنيا عن غيره ، قال الله تعالى : { أنتم الفقراء إلى الله } [ غافر-15 ] ، والمسكين المحتاج إلى كل شيء ألا ترى كيف حض على إطعامه ، وجعل طعام الكفارة له ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة . وقال إبراهيم النخعي : الفقراء هم المهاجرون ، والمساكين من لم يهاجروا من المسلمين . وفى الجملة : الفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال ، فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره ، والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، ثنا أبو العباس الأصم ، ثنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا سفيان بن عيينة عن هشام ، يعنى : ابن عروة ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار : أن رجلين أخبراه أنهما أتيا رسول الله فسألاه عن الصدقة فصعد فيهما وصوب ، فقال : " إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب " . واختلفوا في حد الغنى الذي يمنع أخذ الصدقة : فقال الأكثرون : حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة ، وهو قول مالك والشافعي . وقال أصحاب الرأي : حده أن يملك مائتي درهم . وقال قوم : من ملك خمسين درهما لا تحل له الصدقة ، لما روينا عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ومسألته في وجهه خموش أو خدوش أو كدوح ، قيل : يا رسول الله وما يغنيه ؟ قال : خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب " ، وهو قول الثوري وابن المبارك وأحمد وإسحاق . وقالوا لا يجوز أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين درهما . وقيل : أربعون درهما لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من سأل وله أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا " . قوله تعالى : { والعاملين عليها } . وهم السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها ، فيعطون من مال الصدقة ، فقراء كانوا أم أغنياء ، فيعطون أجر مثل عملهم . وقال الضحاك و مجاهد : لهم الثمن من الصدقة . { والمؤلفة قلوبهم } ، فالصنف الرابع من المستحقين للصدقة هم : المؤلفة قلوبهم ، وهم قسمان : قسم مسلمون ، وقسم كفار . فأما المسلمون : فقسمان ، قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيه تألفا كما أعطى عيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس ، والعباس بن مرداس أو أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام ، وهم شرفاء في قومهم مثل : عدي بن حاتم ، والزبرقان بن بدر ، فكان يعطيهم تألفا لقومهم وترغيبا لأمثالهم في الإسلام ، فهؤلاء يجوز للإمام أن يعطيهم من خمس خمس الغنيمة ، والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الصدقات . والقسم الثاني من مؤلفة المسلمين : أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع متناء ، لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بمؤنة كثيرة وهم لا يجاهدون ، إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم ، فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم الغزاة من مال الصدقة . وقيل : من سهم المؤلفة . ومنهم قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى الإمام ، فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات . وقيل : من سهم سبيل الله . روي أن عدي بن حاتم جاء أبا بكر الصديق بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيرا . وأما الكفار من المؤلفة : فهم من يخشى شره منهم ، أو يرجى إسلامه ، فيريد الإمام أن يعطي هذا حذرا من شره ، أو يعطي ذلك ترغيبا له في الإسلام ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس ، كما أعطى صفوان بن أمية لما يرى من ميله إلى الإسلام ، أما اليوم فقد أعز الله الإسلام فله الحمد ، وأغناه أن يتألف عليه رجال ، فلا يعطى مشرك تألفا بحال ، وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط . روي ذلك عن عكرمة ، وهو قول الشعبي ، وبه قال مالك و الثوري ، وأصحاب الرأي ، و إسحاق بن راهوية . وقال قوم : سهمهم ثابت ، يروى ذلك عن الحسن ، وهو قول الزهري ، و أبي جعفر محمد بن علي ، و أبي ثور ، وقال أحمد : يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك . قوله تعالى : { وفي الرقاب } ، والصنف الخامس : وهم الرقاب ، وهم المكاتبون ، لهم سهم من الصدقة ، هذا قول أكثر الفقهاء ، وبه قال سعيد بن جبير ، و النخعي ، و الزهري ، و الليث بن سعد ، و الشافعي . وقال جماعة : يشترى بسهم الرقاب عبيد فيعتقون . وهذا قول الحسن ، وبه قال مالك و أحمد و إسحاق . قوله تعالى : { والغارمين } ، الصنف السادس هم : الغارمون ، وهم قسمان : قسم دانوا لأنفسهم في غير معصيته ، فإنهم يعطون من الصدقة إذا لم لكن لهم من المال ما يفي بديونهم ، فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون ، وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فإنهم يعطون من مال الصدقة ما يقضون به ديونهم ، وإن كانوا أغنياء .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب عن مالك بن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة : لغاز في سبيل الله ، أو لغارم ، أو لرجل اشتراها بماله ، أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المساكين فأهدى المسكين للغني ، أو لعامل عليها " . ورواه معمر عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم متصلا بمعناه . أما من كان دينه في معصية فلا يدفع إليه . وقوله تعالى : { وفي سبيل الله } ، أراد بها : الغزاة ، فلهم سهم من الصدقة ، يعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ، وما يستعينون به على أمر الغزو من : النفقة ، والكسوة ، والسلاح ، والحمولة ، وإن كانوا أغنياء ، ولا يعطى منه شيء في الحج عند أكثر أهل العلم . وقال قوم : يجوز أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج . ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول الحسن ، وأحمد ، وإسحاق . قوله تعالى : { وابن السبيل } ، الصنف الثامن : هم أبناء السبيل ، فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به المسافة يعطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة ، سواء كان له في البلد المتنقل إليه مال أو لم يكن . وقال قتادة : ابن السبيل هو الضيف . وقال فقهاء العراف : ابن السبيل الحاج المنقطع . قوله تعالى : { فريضة } أي : واجبة { من الله } ، وهو نصب على القطع ، وقيل : على المصدر ، أي : فرض الله هذه الأشياء فريضة . { والله عليم حكيم } . اختلف الفقهاء في كيفية قسم الصدقات ، وفي جواز صرفها إلى بعض الأصناف : فذهب جماعة إلى أنه لا يجوز صرفها كلها إلى بعضهم مع وجود سائر الأصناف ، وهو قول عكرمة ، وبه قال الشافعي ، قال : يجب أن تقسم زكاة كل صنف من ماله على الموجودين من الأصناف الستة ، الذين سهمانهم ثابتة قسمة على السواء ، لأن سهم المؤلفة ساقط ، وسهم العامل إذا قسم بنفسه ، ثم حصة كل صنف منهم لا يجوز أن تصرف إلى أقل من ثلاثة منهم إن وجد منهم ثلاثة أو أكثر ، فلو فاوت بين أولئك الثلاث ، يجوز ، فإن لم يوجد من بعض الأصناف إلا واحدا صرف حصة ذلك الصنف إليه ما لم يخرج عن حد الاستحقاق ، فإن انتهت حاجته وفضل شيء رده إلى الباقين . وذهب جماعة إلى أنه لو صرف الكل إلى صنف واحد من هذه الأصناف ، أو إلى شخص واحد منهم يجوز ، وإنما سمى الله تعالى هذه الأصناف الثمانية إعلاما منه أن الصدقة لا تخرج عن هذه الأصناف ، لا إيجابا لقسمها بينهم جميعا . وهو قول عمر ، وابن عباس ، وبه قال سعيد بن جبير وعطاء ، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي ، وبه قال أحمد ، قال : يجوز أن يضعها في صنف واحد وتفريقها أولى . وقال إبراهيم : إن كان المال كثيرا يحتمل الإجزاء قسمه على الأصناف ، وإن كان قليلا جاز وضعه في صنف واحد . وقال مالك : يتحرى موضع الحاجة منهم ويقدم الأولى فالأولى من أهل الخلة والحاجة ، فإن رأى الخلة في الفقراء في عام أكثر قدمهم ، وإن رآها في عام في صنف آخر حولها إليهم . وكل من دفع إليه شيء من الصدقة لا يزيد على قدر الاستحقاق ، فلا يزيد الفقير على قدر غناه ، فإذا حصل أدنى اسم الغنى لا يعطى بعده ، فإن كان محترفا لكنه لا يجد آلة حرفته : يعطى قدر ما يحصل به آلة حرفته ، ولا يزاد العامل على أجر علمه ، والمكاتب على قدر ما يعتق به . وللغريم على قدر دينه ، وللغازي على قدر نفقته للذهاب والرجوع والمقام في مغزاه وما يحتاج إليه من الفرس والسلاح ، ولابن السبيل على قدر إتيانه مقصده أو ماله . واختلفوا في نقل الصدقة عن بلد المال إلى موضع آخر ، مع وجود المستحقين فيه : فكرهه أكثر أهل العلم ، لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أنبأنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، ثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، ثنا أبو عيسى الترمذي ، ثنا أبو كريب ، حدثنا وكيع ، ثنا زكريا بن إسحاق المكي ، ثنا يحيى بن عبد الله بن الصيفي عن أبي معبد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال : " إنك تأتي قوما أهل كتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " . فهذا يدل على أنه صدقة أغنياء كل قوم ترد على فقراء ذلك القوم . واتفقوا على أنه إذا نقل من بلد إلى بلد آخر أدي مع الكراهة ، وسقط الفرض عن ذمته ، إلا ما حكى عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان .
{ 60 } { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
يقول تعالى : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ } أي : الزكوات الواجبة ، بدليل أن الصدقة المستحبة لكل أحد ، لا يخص بها أحد دون أحد .
أي : إنما الصدقات لهؤلاء المذكورين دون من عداهم ، لأنه حصرها فيهم ، وهم ثمانية أصناف .
الأول والثاني : الفقراء والمساكين ، وهم في هذا الموضع ، صنفان متفاوتان ، فالفقير أشد حاجة من المسكين ، لأن اللّه بدأ بهم ، ولا يبدأ إلا بالأهم فالأهم ، ففسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئا ، أو يجد بعض كفايته دون نصفها .
والمسكين : الذي يجد نصفها فأكثر ، ولا يجد تمام كفايته ، لأنه لو وجدها لكان غنيا ، فيعطون من الزكاة ما يزول به فقرهم ومسكنتهم .
والثالث : العاملون على الزكاة ، وهم كل من له عمل وشغل فيها ، من حافظ لها ، أو جاب لها من أهلها ، أو راع ، أو حامل لها ، أو كاتب ، أو نحو ذلك ، فيعطون لأجل عمالتهم ، وهي أجرة لأعمالهم فيها .
والرابع : المؤلفة قلوبهم ، والمؤلف قلبه : هو السيد المطاع في قومه ، ممن يرجى إسلامه ، أو يخشى شره أو يرجى بعطيته قوة إيمانه ، أو إسلام نظيره ، أو جبايتها ممن لا يعطيها ، فيعطى ما يحصل به التأليف والمصلحة .
الخامس : الرقاب ، وهم المكاتبون الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم ، فهم يسعون في تحصيل ما يفك رقابهم ، فيعانون على ذلك من الزكاة ، وفك الرقبة المسلمة التي في حبس الكفار داخل في هذا ، بل أولى ، ويدخل في هذا أنه يجوز أن يعتق منها الرقاب استقلالا ، لدخوله في قوله : { وفي الرقاب }
السادس : الغارمون ، وهم قسمان :
أحدهما : الغارمون لإصلاح ذات البين ، وهو أن يكون بين طائفتين من الناس شر وفتنة ، فيتوسط الرجل للإصلاح بينهم بمال يبذله لأحدهم أو لهم كلهم ، فجعل له نصيب من الزكاة ، ليكون أنشط له وأقوى لعزمه ، فيعطى ولو كان غنيا .
والثاني : من غرم لنفسه ثم أعسر ، فإنه يعطى ما يُوَفِّى به دينه .
والسابع : الغازي في سبيل اللّه ، وهم : الغزاة المتطوعة ، الذين لا ديوان لهم ، فيعطون من الزكاة ما يعينهم على غزوهم ، من ثمن سلاح ، أو دابة ، أو نفقة له ولعياله ، ليتوفر على الجهاد ويطمئن قلبه .
وقال كثير من الفقهاء : إن تفرغ القادر على الكسب لطلب العلم ، أعطي من الزكاة ، لأن العلم داخل في الجهاد في سبيل اللّه .
وقالوا أيضا : يجوز أن يعطى منها الفقير لحج فرضه ، [ وفيه نظر ]{[372]} .
والثامن : ابن السبيل ، وهو الغريب المنقطع به في غير بلده ، فيعطى من الزكاة ما يوصله إلى بلده ، فهؤلاء الأصناف الثمانية الذين تدفع إليهم الزكاة وحدهم .
{ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } فرضها وقدرها ، تابعة لعلمه وحكمه { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } واعلم أن هذه الأصناف الثمانية ، ترجع إلى أمرين :
أحدهما : من يعطى لحاجته ونفعه ، كالفقير ، والمسكين ، ونحوهما .
والثاني : من يعطى للحاجة إليه وانتفاع الإسلام به ، فأوجب اللّه هذه الحصة في أموال الأغنياء ، لسد الحاجات الخاصة والعامة للإسلام والمسلمين ، فلو أعطى الأغنياء زكاة أموالهم على الوجه الشرعي ، لم يبق فقير من المسلمين ، ولحصل من الأموال ما يسد الثغور ، ويجاهد به الكفار وتحصل به جميع المصالح الدينية .
{ إنما } في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف { الصدقات } على الثمانية الأصناف ، وإنما اختلف في صورة القسمة فقال مالك وغيره : ذلك على قدر اجتهاد الإمام وبحسب أهل الحاجة ، وقال الشافعي : هي ثمانية أقسام على ثمانية أصناف لا يخل بواحد منها إلا أن { المؤلفة } انقطعوا .
قال القاضي أبو محمد : ويقول صاحب هذا القول : إنه لا يجزيء المتصدق والقاسم من كل صنف أقل من ثلاثة ، وأما الفقير والمسكين فقال الأصمعي وغيره : الفقير أبلغ فاقة ، وقال غيرهم : المسكين أبلغ فاقة .
قال القاضي أبو محمد : ولا طريق إلى هذا الاختلاف ولا إلى الترجيح إلا النظر النظر في شواهد القرآن والنظر في كلام العرب وأشعارها ، فمن حجة الأولين قول الله عز وجل { أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر }{[5724]} واعترض هذا الشاهد بوجوه منها ، أن يكون سماهم «مساكين » بالإضافة إلى الغاصب وإن كانوا أغنياء على جهة الشفقة كما تقول في جماعة تظلم مساكين لا حيلة لهم وربما كانوا مياسير ومنها : أنه قرىء «لمسّاكين » بشد السين بمعنى : دباغين يعملون المسوك{[5725]} قاله النقاش وغيره ومنها : أن تكون إضافتها إليهم ليست بإضافة ملك بل كانوا عاملين بها فهي كما تقول : سرج الفرس ، ومن حجة الآخرين قول الراعي : [ البسيط ]
أما الفقير الذي كانت حلوبته*** وفق العيال فلم يترك له سبد{[5726]}
وقد اعترض هذا الشاهد بأنه إنما سماه فقيراً بعد أن صار لا حلوبة له ، وإنما ذكر الحلوبة بأنها كانت ، وهذا اعتراض يرده معنى القصيدة ومقصد الشاعر بأنه إنما يصف سعاية أتت على مال الحي بأجمعه ، فقال : أما الفقير فاستؤصل ماله فكيف بالغني مع هذه الحال ، وذهب من يقول : إن المسكين أبلغ فاقه إلى أنه مشتق من السكون ، وأن الفقير مشتق من فقار الظهر كأنه أصيب فقارة فيه لا محالة حركة ، وذهب من يقول إن الفقير أبلغ فاقه : إلى أنه مشتق من فقرت البئر إذا نزعت جميع ما فيها ، وأن المسكين من السكن .
قال القاضي أبو محمد : ومع هذا الاختلاف فإنهما صنفان يعمهما الإقلال والفاقة ، فينبغي أن يبحث على الوجه الذي من أجله جعلهما الله اثنين ، والمعنى فيهما واحد ، وقد اضطرب الناس في هذا ، فقال الضحاك بن مزاحم : { الفقراء } هم من المهاجرين { والمساكين } من لم يهاجر ، وقال النخعي نحوه ، قال سفيان : يعني لا يعطى فقراء الأعراب منها شيئاً .
قال القاضي أبو محمد : «والمسكين السائل » يعطى في المدينة وغيرها ، وهذا القول هو حكاية الحال وقت نزول الآية ، وأما منذ زالت الهجرة فاستوى الناس ، وتعطى الزكاة لكل متصف بفقر ، وقال عكرمة : { الفقراء } من المسلمين ، { والمساكين } من أهل الذمة ، ولا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين ، وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر «الفقير » من لا مال له ولا حرفة سائلاُ كان أو متعففاً «والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلاً كان أو غير سائل ، وقال قتادة بن دعامة : الفقير الزمن{[5727]} المحتاج ، والمسكين الصحيح المحتاج ، وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وجابر بن زيد ومحمد بن مسلمة : » المساكين «الذين يسعون ويسألون ، و » الفقراء «هم الذين يتصاونون ، وهذا القول الأخير إذا لخص وحرر أحسن ما يقال في هذا ، وتحريره : أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل ولا بذل وجهه ، وذلك إما لتعفف مفرط وإما لُبْلَغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها ، والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال ، فهذه هي المسكنة ، فعلى هذا كل مسكين فقير وليس كل فقير مسكيناً ، ويقوي هذا أن الله تعالى قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم ، وإذا تأملت ما قلناه بان أنهما صنفان موجودان في المسلمين ، ويقوي هذا قوله تعالى :
{ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف }{[5728]} وقيل لأعرابي : أفقير أنت فقال : إني والله مسكين ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «وليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه » ، اقرأوا إن شئتم { لا يسألون الناس إلحافاً }{[5729]} ، فدل هذا الحديث على أن المسكين في اللغة هو الطواف ، وجرى تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على المتصاون مجرى تقديم { الفقراء } في الآية لمعنى الاهتمام إذ هم بحيث إن لم ُيَتَهَّمم بهم هلكوا ، والمسكين يلح ويذكر بنفسه ، وأما العامل فهو الرجل الذي يستنيبه الإمام في السعي على الناس وجمع صدقاتهم ، وكل من يصرف من عون لا يستغنى عنه فهو من { العاملين } لأنه يحشر الناس على الساعي{[5730]} ، وقال الضحاك : للعاملين ثمن ما عملوا على قسمة القرآن ، وقال الجمهور : لهم قدر تعبهم ومؤنتهم قاله مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر ، فإن تجاوز ذلك ثمن الصدقة فاختلف ، فقيل يتم لهم ذلك من سائر الأنصباء وقيل ، بل يتم لهم ذلك من خمس الغنيمة ، واختلف إذا عمل في الصدقات هاشمي فقيل : يعطى منها عمالته{[5731]} وقيل : بل يعطاها الخمس ، ولا يجوز للعامل قبول الهدية والمصانعة ممن يسعى عليه ، وذلك إن فعله رد في بيت المال كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية{[5732]} حين استعمله على الصدقة فقال : هذا لكم وهذا ما أهدي لي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :«هلا قعدت في بيت أبيك وأمك حتى تعلم ما يهدى إليك » وأخذ الجميع منه{[5733]} .
قال القاضي أبو محمد : وتأمل عمالة الساعي هل يأخذها قبل العمل أو بعده ، وهل هي إجازة أو هي جعل وهل العمل معلوم أو هو يتتبع وإنما يعرف قدره بعد الفراغ ، وأما { المؤلفة قلوبهم } فكانوا صنفين ، مسلمين وكافرين مساترين{[5734]} ، قال يحيى بن أبي كثير ، كان منهم أبو سفيان بن حرب بن أمية والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعيينة والأقرع{[5735]} ومالك بن عوف والعباس بن مرداس والعلاء بن جارية الثقفي .
قال القاضي أبو محمد : وأكثر هؤلاء من الطلقاء{[5736]} الذين ظاهر أمرهم يوم الفتح الكفر ، ثم بقوا مظهرين الإسلام حتى وثقه الاستئلاف في أكثرهم واستئلافهم إنما كان لتجلب إلى الإسلام منفعة أو تدفع عنه مضرة ، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحسن والشعبي وجماعة من أهل العلم : انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور مذهب مالك رحمه الله ، قال عبد الوهاب : إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة .
قال القاضي أبو محمد : وقول عمر عندي إنما هو لمعنيين ، فإنه قال لأبي سفيان حين أراد أخذ عطائه القديم : إنما تأخذ كرجل من المسلمين فإن الله قد أغنى عنك وعن ضربائك{[5737]} ، يريد في الاستئلاف ، وأما أن ينكر عمر الاستئلاف جملة وفي ثغور الإسلام فبعيد ، وقال كثير من أهل العلم : { المؤلفة قلوبهم } موجودون إلى يوم القيامة .
قال القاضي أبو محمد : وإذا تأملت الثغور وجد فيها الحاجة إلى الاستئلاف ، وقال الزهري : { المؤلفة } من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً .
قال القاضي أبو محمد : يريد لتبسط نفسه ويحبب دين الإسلام إليه ، وأما { الرقاب } فقال ابن عباس والحسن ومالك وغيره : هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته ، واختلف هل يعان بها المكاتب في أثناء نجومه{[5738]} بالمنع والإباحة ، واختلف على القول بإباحة ذلك إن عجز فقيل يرد ذلك من عند السيد ، وقيل يمضي لأنه كان يوم دفعه بوجه مترتب ، وقال الشافعي : معنى { وفي الرقاب } في المكاتبين ولا يبتدأ منها عتق عبد ، وقاله الليث وإبراهيم النخعي وابن جبير ، وذلك أن هذه الأصناف إنما تعطى لمنفعة المسلمين أو لحاجة في أنفسها ، والعبد ليس له واحدة من هاتين العلتين ، والمكاتب قد صار من ذوي الحاجة وقال الزهري : سهم الرقاب نصفان ، نصف للمكاتبين ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى ، قال ابن حبيب : ويفدى منه أسارى المسلمين ومنع ذلك غيره{[5739]} ، وأما «الغارم فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه ، قال العلماء : فهذا يؤدى عنه وإن كانت له عروض تقيم رمقه وتكفي عياله ، وكذلك الرجل يتحمل بحمالة في ديارات أو إصلاح بين القبائل ونحو هذا ، وهو أحد الخمسة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
«ولا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة :العامل عليها أو غاز في سبيل الله أو رجل تحمل بحمالة أو من أهديت له أو من اشتراها بماله »{[5740]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد سقط { المؤلفة } من هذا الحديث ، ولا يؤدى من الصدقة دين ميت ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله ، وإنما «الغارم » من عليه دين يسجن فيه ، وقد قيل في مذهبنا وغيره : يؤدى دين الميت من الصدقات قاله أبو ثور ، وأما { في سبيل الله } فهو المجاهد يجوز أن يأخذ من الصدقة لينفقها في غزوه وإن كان غنياً قال ابن حبيب : ولا يعطى منها الحاج إلا أن يكون فقيراً فيعطى لفقره ، وقال ابن عباس وابن عمر وأحمد وإسحاق : يعطى منها الحاج وإن كان غنياً ، والحج سبيل الله ، ولا يعطى منها في بناء مسجد ولا قنطرة ولا شراء مصحف ونحو هذا ، وأما { ابن السبيل } فهو الرجل في السفر والغربة يعدم فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنياً في بلده ، وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل كما يقال للطائر : ابن ماء لملازمته له ومنه عندي قولهم : ابن جلا وقد قيل فيه غير هذا ومنه قولهم : بنو الحرب وبنو المجد{[5741]} ولا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة ، قال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب : ولا من التطوع ولا يعطى مواليهم لأن مولى القوم منهم ، قال ابن القاسم : يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع ويعطى مواليهم من الصدقتين ، ومن سأل من الصدقة وقال إنه فقير ، فقالت فرقة يعطى دون أن يكلف بينة على فقره بخلاف حقوق الآدميين يدعي معها الفقر فإنه يكلف البينة لأنها حقوق الناس يؤخذ لها بالأحوط ، وأيضاً فالناس إذا تعلقت بهم حقوق آدمي محمولون على الغني حتى يثبت العدم ويظهر ذلك من قوله تعالى { وإن كان ذو عسرة }{[5742]} أي ان وقع فيعطي هذا أن الأصل الغنى{[5743]} فإن وقع ذو عسرة فنظرة ، وقالت فرقة : الرجل الصحيح الذي لا يعلم فقره لا يعطى إلا أن يعلم فقره ، وأما إن ادعى أنه غارم أو مكاتب أو ابن سبيل أو في سبيل الله أو نحو ذلك مما لم يعلم منه فلا يعطى إلا ببينة قولاً واحداً ، وقد قيل في الغارم{[5744]} : تباع عروضه وجميع ما يملك ثم يعطى بالفقر ، ويعطى الرجل قرابته الفقراء وهم أحق من غيرهم فإن كان قريبه غائباً في موضع تقصر إليه الصلاة فجاره الفقير أولى ، وإن كان في غيبة لا تقصر إليه الصلاة فقيل هو أولى من الجار الفقير ، وقيل الجار أولى ويعطى الرجل قرابته الذين لا تلزمه نفقتهم ، وتعطى المرأة زوجها ، وقال بعض الناس ما لم ينفق عليها ، ويعطي الرجل زوجته إذا كانت من الغارمين ، واختلف في ولاء الذي يعتق من الصدقة ، فقال مالك : ولاؤه لجماعة المسلمين وقال أبو عبيد : ولاؤه للمعتق وقال عبيد الله بن الحسن : يجعل ماله في بيت الصدقات ، وقال الحسن وأحمد وإسحاق : ويعتق من ماله رقاب ، وإذا كان لرجل على معسر دين فقيل يتركه له ويقطع ذلك من صدقته وقيل لا يجوز ذلك جملة ، وقيل إن كان ممن لو رفعه للحاكم أمكن أن يؤديه جاز ذلك وإلا لم يجز لأنه قد توي{[5745]} وأما السبيل : فهو الذي قدمنا ذكره يعطى الرجل الغازي وإن كان غنياً ، وقال أصحاب الرأي لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا أن يكون منقطعاً به ، قال ابن المنذر ؟ وهذا خلاف ظاهر القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما القرآن فقوله { وفي سبيل الله } ، وأما الحديث فقوله «إلا لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل الله » ، وأما صورة التفريق فقال مالك وغيره : على قدر الحاجة ونظر الإمام يضعها في أي صنف رأى وكذلك المتصدق ، وقاله حذيفة بن اليمان وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبو العالية ، قال الطبري : وقال بعض المتأخرين : إذا قسم المتصدق قسم في ستة أصناف لأنه ليس ثم عامل ولأن المؤلفة قد انقطعوا فإن قسم الإمام ففي سبعة أصناف ، قال الشافعي وعكرمة والزهري : هي ثمانية أقسام لثمانية أصناف لا يخل بواحد منها واحتج الشافعي بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله : «إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسم نبي ولا غيره حتى قسمها بنفسه فجعلها ثمانية أقسام لثمانية أصناف فإن كنت واحداً منها أعطيتك » .
قال القاضي أبو محمد : والحديث في مصنف أبي داود ، وقال أبو ثور : إذا قسمها الإمام لم يخل بصنف منها وإن أعطى الرجل صدقته صنفاً دون صنف أجزأه ذلك وقال النخعي : إذا كان المال كثيراً قسم على الأصناف كلها وإذا كان قليلاً أعطاه صنفاً واحداً . وقالت فرقة من العلماء : من له خمسون درهماً فلا يعطى من الزكاة ، وقال الحسن وأبو عبيد ، لا يعطى من له أوقية وهي أربعون درهماً ، قال الحسن : وهو غني وقال الشافعي : قد يكون الرجل الذي لا قدر له غنياً بالدرهم مع سعيه وتحيله ، وقد يكون الرجل له القدر والعيال ضعيف النفس والحيلة فلا تغنيه آلاف ، وقال أبو حنيفة : لا يأخذ الصدقة من لا مائتا درهم ومن كان له أقل فلا بأس أن يأخذ ، قال سفيان الثوري : لا يدفع إلى أحد من الزكاة أكثر من خمسين درهماً ، إلا أن يكون غارماً وقال أصحاب الرأي ، إن أعطي ألفاً وهو محتاج أجزأ ذلك ، وقال أبو ثور : يعطى من الصدقة حتى يغنى ويزول عنه اسم المسكنة ولا بأس أن يعطى الفقير الألف وأكثر من ذلك ، وقال ابن المنذر : أجمع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما أن يأخذ من الزكاة وللمعطي أن يعطيه ، وقال مالك : إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة على ما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجزه ، وأما الرجل يعطي الآخر وهو يظنه فقيراً فإذا هو غني ، فإنه إن كان بفور ذلك أخذها منه فإن فاتت نظر ، فإن كان الآخذ غنياً وأخذها مع علمه بأنها لا تحل له ضمنها على كل وجه ، وإن كان لم يغر بل اعتقد أنها تجوز له ، أو لم يتحقق مقصد المعطي نظر ، فقال الحسن وأبو عبيدة : تجزيه ، وقال الثوري وغيره : لا تجزيه ، وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فتنقل إلى غيرها بحسب نظر الإمام ، قال ابن حبيب في الواضحة : أما { المؤلفة } فانقطع سهمهم ، وأما سبيل الله فلا بأس أن يعطى الإمام الغزاة إذا قل الفيء في بيت المال .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الشرط فيه نظر ، قال ابن حبيب : وينبغي للإمام أن يأمر السعاة بتفريقها بالمواضع التي جبيت فيها ولا يحمل منه شيء إلى الإمام إلا أن يرى ذلك لحاجة أو فاقة نزلت بقوم ، قال مالك : ومن له مزرعة أو شيء في ثمنه إذا باعه ما يغنيه لم يجز له أخذ الصدقة ، وهذه جملة من فقه الآية كافية على شرطنا في الإيجاز والله الموفق برحمته{[5746]} ، وقال تعالى : { فريضة من الله } أي موجبة محدودة وهو مأخوذ من الفرض في الشيء بمعنى الحز والقطع ثبوت ذلك ودوامه ، شبه ما يفرض من الأحكام ، ونصب { فريضة } على المصدر{[5747]} ، ثم وصف نفسه تعالى بصفتين مناسبتين لحكم هذه الآية لأنه صدر عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة بينهم .