غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (60)

60

التفسير : إن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بيَّن لهم الله سبحانه مصرفها كيلا يبقى لهم طعن إذا وجدوا فعله موافقاً لحكم الله فقال { إنما الصدقات } الآية . وفي تصدير الكلام بإنما دلالة على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا لهؤلاء ، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل : «إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق . وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن » ولنتكلم في تعريف هؤلاء الأصناف . فالأول والثاني : الفقراء والمساكين . ولا شك أن كلاً من الصنفين محتاجون لا يفي دخلهم بخرجهم إنما الكلام في أنهما متساوياً الدلالة أو أحدهما أسوأ حالاً . فعن أبي يوسف ومحمد والجبائي أنهما واحد حتى لو أوصى لزيد وللفقراء والمساكين بمال كان لزيد النصف لا الثلث . قال الجبائي : إنه تعالى ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في الصدقات . والفائدة فيه أن أصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم . وعند الشافعي الفقير أسوأ حالاً لأنه تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجاتهم فالذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم ، ومما يدل على إشعار الفقر بالشدّة العظيمة قوله تعالى { تظن أن يفعل بها فاقرة } [ القيامة : 25 ] جعل الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي . وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر ، وقد سأل المسكنة في قوله «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين » فكأنه سأل توسط الحال ، ولهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أشياء معلومة مع أنه تعالى أجاب دعاءه ظاهراً فأماته مسكيناً . وتقييده تعالى المسكين بقوله

{ ذا متربة } [ البلد : 16 ] يدل على أن المسكين قد لا يكون كذلك ، وقال تعالى { أما السفينة فكانت لمساكين } [ الكهف : 79 ] وكان ابن عباس يفسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئاً كأهل الصفة ، والمسكين بأنه الطوَّاف الذي يسأل الناس . والغالب أنه يحصل له منهم شيء وقريب منه قول من قال سمي مسكيناً لأنه الدائم السكون إلى الناس . ولما كان المسكين هو السائل لما قلنا فالمحرم في قوله سبحانه { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } [ الذاريات : 19 ] هو الفقير صاحب الحرمان . واتفق الناس على أن الفقير ضد الغني ولم يقل أحد أن الغنى والمسكنة ضدان فلعل الترفع هو ضد التمسكن . وقال أبو حنيفة : المسكين أسوأ حالاً لقوله تعالى { أو مسكيناً ذا متربة } [ البلد : 16 ] وقد تقدم الكلام عليه ولأنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة ولا فاقة أعظم من الجوع ونقل الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين هو الذي لا شيء له ، وقال يونس : قلت لأعرابي ، أفقير أنت ؟ قال : لا والله بل مسكين . وقيل : سمعي مسكيناً لأنه يسكن حيث يحضر لأجل أنه لا بيت له ولا منزل . وأجيب بأنه تعالى جعل الكفارة للمسكين ذي المتربة وهو الفقير بعينه وإنما النزاع في المسكين المطلق والروايات معارضة بأمثالها والله أعلم . الصنف الثالث : العاملون على الصدقات وهم السعاة الجباة للصدقة . قال ابن عمر وابن الزبير والشافعي : يعطى هؤلاء أجور أمثالهم لأنها أجرة للعمل . وقال مجاهد والضحاك : يعطون الثمن من الصدقات لأنهم صنف من الثمانية ، والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصدقات وقال : أما علمت أن مولى القوم منهم . وفائدة التعدية بعلى التسليط والولاية . يقال : فلان على بلدة كذا إذا كان والياً عليها . واختلفوا في أن الإمام هل له حق لأنه هو العامل في الحقيقة أو لا حق له لخروجه عن الأصناف ؟ والجمهور على أن العامل يأخذ نصيبه وإن كان غنياً لأن ذلك أجرة عمله . وعن الحسن أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة . الصنف الرابع : المؤلفة قلوبهم . عن ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلاً منهم أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أعطى كل رجل منهم مائة من الإبل . قال العلماء : لعل مراد ابن عباس إنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة وإلا فلم يكن ما أعطاهم من الصدقات . ويروى أن أبا بكر الصديق أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة . والذي استقر عليه رأى الأئمة أن المؤلفة ثلاثة أقسام : ضعيف النية في الإسلام ، وشريف بإعطائه يتوقع سلام نظرائه ، والمتألف على جهاد من يليهم من الكفار ومانعي الزكاة حيث يكون ذلك أهون للإمام من بعث جيش يعطى كل واحد ما رأى الإمام باجتهاده ، هذا كله إذا كانوا مسلمين ، فأما الكفار الذين يميلون إلى الإسلام فيرغبون فيه بإعطاء مال ، والذين يخاف شرهم فيتألفون لدفع الشر بمال فلا يعطون شيئاً من الزكاة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس والآن لا يعطون أصلاً لقوة الإسلام والاستغناء عن تألفهم ولأنه ليس في الآية دلالة على أن المؤلفة يجوز أن يكونوا من الكفار فلا ينبغي أن يقال إن حكم الآية منسوخ ، الصنف الخامس قوله وفي الرقاب . قال الزجاج : تقديره وفي فك الرقاب ، وللأئمة في تفسيره أقوال ؛ فعن ابن عباس أنهم المكاتبون وهو مذهب الشافعي قال : إذا عجزوا عن أداء النجوم بأن يكون لهم شيء أو لا يفي ما في أيديهم بنجومهم صرف إليهم أو إلى سيدهم بإذنهم ما يعينهم على العتق . وقال مالك وأحمد وإسحاق : المراد أنه يشتري به عبيد فيعتقون . وعن أبي حنيفة وأصحابه . وهو قول سعيد بن جبير والنخعي ، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله { وفي الرقاب } يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاماً فيه . وقال الزهري : سهم الرقاب نصفه للمكاتبين المسلمين ونصفه يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون . قال المفسرون : إنما عدل عن اللام إلى «في » لأن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤوا ، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة . ففي الرقاب يوضع نصيبهم في تخليص رقابهم عن الرق أو الأسر ولا يدفع إليهم ، وفي الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم ، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاج إليه في الغزو ، وفي ابن السبيل كذلك يصرف إلى ما يبلغه المقصد . وقال في الكشاف : إنما عدل للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصديق عليهم ممن سبق لأن «في » للوعاء فنبه به على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مصباً للصدقات . وتكرير «في » في قوله { وفي سبيل الله وابن السبيل } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين الصنف السادس الغارمون قال الزجاج : أصل الغرم لزوم ما يستحق وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً لازماً . وفلان مغرم بالنساء ، وسمي الدين غرماً لأنه شاق لازم . فالغارمون المديونون والدين إن حصل بسبب معصية لم يدخل في الآية لأن المعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بالمعصية فهو مقصود الآية سواء حصل بسبب نفقات ضرورية أي لإصلاح ذات البين . وإن كان متمولاً أو للضمان إن أعسر هو والأصيل وكل داخل في الآية . روى الأصم في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم لم قضى بالغرة في جنين قالت العاقلة : لا نملك الغرة يا رسول الله ، فقال لحمد ابن مالك : أعنهم بغرة من صدقاتهم ، وكان حمد على الصدقة يومئذ . وإنما يعطى الغارم قدر دينه إن لم يقدر على شيء وإن قدر على بعض أعطى الباقي . الصنف السابع قوله { في سبيل الله } يعني الغزاة . قال الشافعي : يجوز له أن يأخذ من مال الصدقات وإن كان غنياً وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد . وقال أبو حنيفة : لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجاً وظاهر لفظ الآية لا يوجب القصر على الغزاة فلهذا نقل القفال عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقة إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن كلها في سبيل الله . الصنف الثامن ابن السبيل وهو المسافر لا لأجل معصية ، يعطى ما يبلغه المقصد أو موضع ماله إن كان له في الطريق مال . قال الشافعي : ويدخل في المسافر الشاخص من وطنه أو من بلد كان مقيماً به منشئاً للسفر والغريب المجتاز ببلدنا والله أعلم .

ولنذكر طرفاً من أحكام هذه الأصناف :

الحكم الأول : اتفقوا على دخول الزكاة الواجبة في قوله { إنما الصدقات } لقوله في موضع آخر { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة » واختلفوا في الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل ، والفائدة أن تعلم أن مصارف جميع الصدقات ليست إلا هؤلاء الأصناف ، والأقرب اختصاص الآية بالواجبة لدخول لام التمليك في الأصناف ، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة ولأن الآية تدل على الحصر في الأصناف الثمانية والصدقة المندوبة يجوز صرفها إلى وجوه أخر كالمساجد والمدارس وتجهيز الموتى ، ولأن الصدقات تنصرف إلى معهود سابق وهو الصدقات الواجبة في قوله { ومنهم من يلمزك في الصدقات } .

الحكم الثاني : في الآية دلالة على أن الزكاة إنما يتولى أخذها الإمام أو نائبه لأنه تعالى جعل للعاملين سهماً منها . والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات ويتأكد هذا النص بقوله { خذ من أموالهم صدقة } فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر كقوله { وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ الذاريات : 19 ] وإذا كان حقاً لهما وجب أن يجوز دفعه إليهما ابتداء ، وإذا كان الإمام جائراً فالتفريق بنفسه أفضل .

الحكم الثالث : مذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية والنخعي ، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الثمانية فلا يلزم أن يكون كل جزء من أجزائها كصدقة زيد مثلاً موزعاً على كل واحد منهم ، ولأن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين ديناراً فأخرج نصف دينار لو كلفناه أن يقسمه على أربعة وعشرين لدفع كل ثلاثة منها إلى ثلاثة من كل صنف صار كل قسم حقيراً صغيراً غير منتفع به في مهم معتبر . وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحب إلي . وقال الشافعي : لا بد من صرفها ، إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز . واحتجوا عليه بأن الله تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب ثم أكدها بقوله { فريضة من الله } وهو في معنى المصدر المؤكد لأن قوله { إنما الصدقات للفقراء } في قوة قوله فرض الله الصدقات لهم ، وهذا كالزجر عن مخالفة من الآية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله تبارك وتعالى لم يرض بقسمة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه » . ثم ختم الآية بقوله { والله عليم } أي بتقدير الأنصباء والمصالح { حكيم } لا يفعل إلا ما هو الأصوب والأصلح وكل هذه المؤكدات دليل على وجوب الاحتياط في صرف الزكاة ، ومن هاهنا قال الشافعي : لا بد في كل صنف من ثلاثة لأنه تعالى ذكر أكثر الأصناف بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة ، فإن دفع نصيب الفقراء إلى اثنين غرم للثالث أقل متمول على الأقيس لا الثلث ، لأن التفضيل في أفراد الصنف جائز للمالك لأن العدد من كل صنف غير محصور فيصعب اعتبار التسوية بخلاف التسوية بين الأصناف لأنهم محصورون فتسهل التسوية بينهم .

الحكم الرابع : العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في زماننا فبقي أن تصرف الزكاة إلى الأصناف الستة الباقية كما لو فقد بعض الأصناف في بلد فإنه يصرف إلى الباقين ، ولا يؤمر بالنقل إلى بلد وجدوا فيه جميعاً والأحوط رعاية التسوية بينهم على ما يقوله الشافعي ، أما إذا لم يفعل ذلك فإنها مجزئه عند سائر الأئمة . أما الحكمة في إيجاب الزكاة فهو أن المال محبوب بالطبع لأن القدرة من صفات الكمال والمال سبب . لحصول القدرة على المشتهيات والمآرب لكن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت الحكمة الإلهية تكليف مالك المال إخراج طائفة منه كسراً للنفس ومنعاً من انصبابها بالكلية إليه . فإيجاب الزكاة علاج صالح لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب وهو المراد من قوله { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } أي عن دنس الاستغراق في حب المال . وأيضاً إن كثرة الأموال توجب القوة والقدرة والشدة ، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى تحصيل الأموال المتزايدة فتصير المسألة دورية لا مقطع لها ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعاً وآخراً وهو صرف طائفة من المال في طلب مرضاة الله ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويفضي في الأغلب إلى الطغيان وقساوة القلب . وأيضاً النفس الناطقة لها قوتان : نظرية وكمالها في التعظيم لأمر الله ، وعملية وكمالها في الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليتصف جوهر الروح بهذا الكمال ويصير بسبب ذلك محسناً إلى الخلق ، وإذا أحسن إليهم أمدوه بالدعاء والهمة . وأيضاً المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه وهو غاد ورائح سريع الزوال مشرف على التلف والبوار ، فإذا أنفقه لوجه الله بقي بقاء لا يمكن زواله . وفي إنفاق المال تشبه بالمجردات والمفارقات وليس الغنى إلا عن الشيء لا به لأن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة المخلوقين العاجزين ، ففي الأمر بالزكاة نقل للإنسان من درجة أدنى إلى درجة أعلى . وأيضاً للإنسان روح وبدن ومال فإذا بذلك الروح في الاستغراق في بحار معرفة الله ، وبذل البدن في العبودية لله والصلاة له فكيف يليق به أن لا يبذل المال في ابتغاء مرضاته ؟ ! وأيضاً إذا فضل المال عن قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فهاهنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال ، أما في حق المالك فهو أنه سعى اكتسابه وتحصيله وتعلق قلبه به ، وأما في حق الفقير فلاحتياجه الموجب للتعلق به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت حكمة الشارع رعاية كل منهما بقدر الإمكان . ورجح جانب المالك لأن له حق الاكتساب وحق التعلق فأبقى عليه الكثير وأمر بصرف جزء يسير إلى الفقير توفيقاً بين الأمرين وجمعاً بين المصلحتين مع رعاية المال عن التعطيل فلا معطل في الوجود . وأيضاً الأغنياء خزان الله لأن المال مال الله وهم عبيده ولولا أنه ألقاها في أيديهم لما ملكوا منها حبة ، فكم من عاقل لا يملك ملء بطنه ، وكم من غافل تأتيه الدنيا عفواً صفواً . وليس بمستبعد أن يقول الملك لخزّانه اصرفوا طائفة من مال خزانتي إلى المحتاجين من عبيدي . وأيضاً إن الأغنياء لو لم يلزموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملتهم شدة الحاجة على تحصيل المال من وجوه منكرة كالسرقة ونحوها أو على الالتحاق بأعداء المسلمين . وقال صلى الله عليه وسلم «الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر » وكأن تعالى يقول للغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيباً منه حتى تصبر على فقدان المال فتصير من الصابرين ، ويقول للفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجبت على الغني أن يصرف إليك طائفة من المال لتشكرني فتكون من الشاكرين . وأيضاً أراد الله سبحانه أن يكون الغني منعماً على الفقير بما يؤديه إليه ويكون الفقير منعماً على الغني بما قبله منه ليحصل الخلاص في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار .

/خ69