قوله : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء } لما لمز المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بيّن الله لهم مصرفها دفعاً لطعنهم ، وقطعاً لشغبهم ، و { إِنَّمَا } من صيغ القصر ، وتعريف الصدقات للجنس : أي جنس هذه الصدقات مقصور على هذه الأصناف المذكورة لا يتجاوزها ، بل هي لهم لا لغيرهم .
وقد اختلف أهل العلم هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية ، أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة ؟ فذهب إلى الأوّل الشافعي وجماعة من أهل العلم ، وذهب إلى الثاني : مالك وأبو حنيفة ، وبه قال عمر ، وحذيفة ، وابن عباس ، وأبو العالية ، وسعيد بن جبير ، وميمون بن مهران . قال ابن جرير وهو قول عامة أهل العلم : احتج الأوّلون بما في الآية من القصر ، وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته ، فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة ، فقال له :«إن الله لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أصناف ، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك » وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف ، لا لوجوب استيعاب الأصناف ، وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف . ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِما هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم » وقد ادّعى مالك الإجماع على القول الآخر . قال ابن عبد البرّ : يريد إجماع الصحابة ، فإنه لا يعلم له مخالفاً منهم . قوله : { لِلْفُقَرَاء } قدمهم ، لأنهم أحوج من البقية على المشهور لشدّة فاقتهم وحاجتهم .
وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال : فقال يعقوب بن السكيت ، والقتيبي ، ويونس بن حبيب : إن الفقير أحسن حالاً من المسكين ، قالوا : لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه . والمسكين الذي لا شيء له ، وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة . وقال آخرون بالعكس ، فجعلوا المسكين أحسن حالاً من الفقير ، واحتجوا بقوله تعالى : { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين } فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر . وربما ساوت جملة من المال ، ويؤيده تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفقر مع قوله : «اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً » وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة . وحكاه الطحاوي عن الكوفيين ، وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه . وقال قوم : إن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي ، وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك ، وبه قال أبو يوسف . وقال قوم : الفقير المحتاج المتعفف ، والمسكين : السائل . قاله الأزهري ، واختاره ابن شعبان ، وهو مرويّ عن ابن عباس . وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتدّ بها . والأولى في بيان ماهية المسكين : ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البخاري ومسلم ، وغيرهما ، من حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان » ، قالوا : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال : «الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدّق عليه ، ولا يسأل الناس شيئاً » قوله : { والعاملين عَلَيْهَا } أي : السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة ، فإنهم يستحقون منها قسطاً .
وقد اختلف في القدر الذي يأخذونه منها ، فقيل : الثمن . روي ذلك عن مجاهد والشافعي . وقيل : على قدر أعمالهم من الأجرة ، روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه . وقيل : يعطون من بيت المال قدر أجرتهم . روي ذلك عن مالك ، ولا وجه لهذا ، فإن الله قد أخبر بأن لهم نصيباً من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون من غيرها ؟ واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشمياً أم لا ؟ فمنعه قوم ، وأجازه آخرون . قالوا : ويعطى من غير الصدقة . قوله : { والمؤلفة قُلُوبُهُمْ } هم قوم كانوا في صدر الإسلام ، فقيل : هم الكفار الذين كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يتألفهم ليسلموا . وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف ، بل بالعطاء . وقيل : هم قوم أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسلامهم ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطاء ؛ وقيل : هم من أسلم من اليهود والنصارى ، وقيل : هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع ، أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم ليتألفوا أتباعهم على الإسلام . وقد أعطى النبيّ صلى الله عليه وسلم جماعة ممن أسلم ظاهراً كأبي سفيان بن حرب ، والحرث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل تألفهم بذلك ، وأعطى آخرين دونهم .
وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور الإسلام أم لا ؟ فقال عمر ، والحسن ، والشعبي : قد انقطع هذا الصنف بعزّة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي : وقد ادّعى بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك . وقال جماعة من العلماء : سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن يتألف على الإسلام . وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين . قال يونس : سألت الزهري عنهم فقال : لا أعلم نسخ ذلك ، وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف .
قوله : { وَفِي الرقاب } أي في فك الرقاب بأن يشتري رقاباً ثم يعتقها . روي ذلك عن ابن عباس ، وابن عمر ، وبه قال مالك ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق وأبو عبيد . وقال الحسن البصري ، ومقاتل ابن حيان ، وعمر بن عبد العزيز ، وسعيد بن جبير ، والنخعي ، والزهري ، وابن زيد : إنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة ، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي ، ورواية عن مالك ، والأولى حمل ما في الآية على القولين جميعاً لصدق الرقاب على شراء العبد وإعتاقه ، وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة . قوله : { والغارمين } هم : الذين ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها ، ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب . وقد أعان النبيّ صلى الله عليه وسلم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها . قوله : { وَفِى سَبِيلِ الله } هم الغزاة والمرابطون ، يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء ، وهذا قول أكثر العلماء .
وقال ابن عمر : هم الحجاج والعمار ، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيراً منقطعاً به .
قوله : { وابن السبيل } هو : المسافر ، والسبيل الطريق ، ونسب إليها المسافر لملازمته إياها ، والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقرّه ، فإنه يعطى منها وإن كان غنياً في بلده ، وإن وجد من يسلفه . وقال مالك : إذا وجد من يسلفه فلا يعطى . قوله : { فَرِيضَةً مّنَ الله } مصدر مؤكد ؛ لأن قوله : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء } معناه : فرض الله الصدقات لهم . والمعنى : أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم فرضه الله على عباده ونهاهم عن مجاوزته { والله عَلِيمٌ } بأحوال عباده { حَكِيمٌ } في أفعاله ؛ وقيل : إن { فريضة } منتصبة بفعل مقدّر ، أي فرض الله ذلك فريضة . قال في الكشاف : فإن قلت : لم عدل عن اللام إلى «في » في الأربعة الآخرة ؟ قلت : للإيذان بأنها أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره ؛ وقيل : النكتة في العدول أن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا به كما شاءوا ، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم ، بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة ، كذا قيل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.