فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلۡفُقَرَآءِ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡعَٰمِلِينَ عَلَيۡهَا وَٱلۡمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمۡ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلۡغَٰرِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِۖ فَرِيضَةٗ مِّنَ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٞ} (60)

{ إنما الصدقات للفقراء والمساكين } لما لمز المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات ، بين الله لهم مصرفها دفعا لطعنهم وقطعا لشغبهم و { إنما } من صيغ القصر ، وتعريف الصدقات للجنس ، أي جنس هذه الصدقات مقصورة على هذه الأصناف الثمانية المذكورة لا يتجاوزها بل هي لهم لا لغيرهم ، ولا تعلق لرسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء منها ، ولم يأخذ لنفسه منها شيئا .

وقد اختلف العلماء هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة ، فذهب إلى الأول حذيفة والشافعي وجماعة من أهل العلم ، وذهب إلى الثاني مالك وأبو حنيفة وبه قال عمر وحذيفة وابن عباس وأبو العالية وسعيد بن جبير وميمون بن مهران .

قال ابن جرير : وهو قول عامة أهل العلم ، احتج الأولون بما في الآية من القصر وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فأتى رجل فقال : أعطني من الصدقة ، فقال له : إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو ، فجزأها ثمانية أصناف فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك{[900]} .

وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف لا لوجوب استيعاب الأصناف ، وبأن في إسناد الحديث : عبد الرحمن ابن زياد ابن أنعم الأفريقي وهو ضعيف .

ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى : { إن تبدو الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة ، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم{[901]} .

وقد ادعى مالك الإجماع على القول الآخر . قال ابن عبد البر : يريد إجماع الصحابة فإنه لا يعلم مخالفا منهم وقدم الفقراء لأنهم أحوج من البقية على المشهور لشدة فاقتهم وحاجتهم .

وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال ، فقال يعقوب ابن السكيت والقتيبي ويونس بن حبيب : إن الفقير أحسن حالا من المسكين . قالوا لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه ، والمسكين الذي لا شيء له ، وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة .

وقال آخرون بالعكس فجعلوا المسكين أحسن حالا من الفقير ، واحتجوا بقوله تعالى : { أما السفينة فكانت لمساكين } فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر وربما ساوت جملة من المال ويؤيده تعوذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الفقر مع قوله : ( اللهم احيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين ) وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة وحكاه الطحاوي عن الكوفيين وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه . وقال قوم أن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك وبه قال أبو يوسف .

وقال قوم : الفقير المحتاج المتعفف والمسكين السائل ، قاله الأزهري واختاره ابن شعبان وهو المروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة .

وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتد بها .

والأولى في بيان ماهية المسكين ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان قالوا فما المسكين يا رسول الله ؟ قال : الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئا ) {[902]} .

{ والعاملين عليها } أي السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة فإنهم يستحقون منها قسطا . واختلف في القدر الذي يأخذونه منها فقيل الثمن روي ذلك عن مجاهد والشافعي ، وقيل على قدر أعمالهم من الأجرة ، روي ذلك عن أبي حنيفة وأصحابه ، وقيل يعطون من بيت المال قدر أجرتهم ، روي ذلك عن مالك ولا وجه لهذا ، فإن الله قد أخبر بأن لهم نصيبا من الصدقة فكيف يمنعون منها ويعطون من غيرها .

واختلفوا هل يجوز أن يكون العامل هاشميا أم لا ؟ فمنعه قوم وأجازه آخرون ، قالوا : ويعطى من غير الصدقة ولا ينحصر العامل في الساعي والجابي ، إذ منه القاسم والكاتب الذي يكتب ما أعطاه أرباب الأموال ، والحاشر الذي يجمع المستحقين والعريف والحاسب .

{ والمؤلفة قلوبهم } هم قوم كانوا في صدر الإسلام فقيل هم الكفار الذين كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتألفهم ليسلموا وكانوا لا يدخلون في الإسلام بالقهر والسيف بل بالعطاء ، وقيل هم أسلموا في الظاهر ولم يحسن إسلامهم فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتألفهم بالعطاء ، وقيل هم من أسلف من اليهود والنصارى .

وقيل هم قوم من عظماء المشركين لهم أتباع أعطاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليؤلفوا أتباعهم على الإسلام ، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة ممن أسلم ظاهرا كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل ابن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، أعطى كل واحد منهم مائة من الإبل يؤلفهم بذلك وأعطى آخرين دونهم .

وقد اختلف العلماء هل سهم المؤلفة قلوبهم باق بعد ظهور الإسلام أم لا فقال عمر والحسن والشعبي : قد انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره ، وهذا مشهور من مذهب مالك وأصحاب الرأي ، وقد ادعى بعض الحنفية أن الصحابة أجمعت على ذلك وقد صار إليه الروياني وجماعة ، وقال جماعة من العلماء منهم الشافعي وهو الموافق لظاهر الآية أن سهمهم باق لأن الإمام ربما احتاج أن يؤلف على الإسلام ، وإنما قطعهم عمر لما رأى من إعزاز الدين ، وبه أفتى الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية ، قال يونس : سألت الزهري عنهم فقال : لا أعلم نسخ ذلك وعلى القول الأول يرجع سهمهم لسائر الأصناف .

ومن المؤلفة قلوبهم كفار يخاف شرهم بحيث لو أعطوا لانكف شرهم وهذا لا يعطى من زكاة ولا من غيرها باتفاق ومنهم من يذب عن المسلمين ومنهم من يقاتل من يليهم ويجاورهم من مانعي الزكاة ويقبض زكاتهم ، فتلخص أن المؤلفة أقسام ، وفي هذه الأقسام أقوال ذكرها في الجمل .

{ وفي الرقاب } أي مصروفة في فكها بأن يشتري رقابا ثم يعتقها ، روي ذلك عن ابن عباس وابن عمر ، وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق وأبو عبيد وقال الحسن البصري ومقاتل بن حيان وعمر بن العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والزهري وابن زيد : أنهم المكاتبون يعانون من الصدقة على مال الكتابة وهو قول الشافعي وأكثر الفقهاء وأصحاب الرأي ، ورواية عن مالك ، وبه قال سعيد بن جبير والضحاك والزهري والليث .

ويدل عليه أيضا قوله تعالى : { وآتوهم من مال الله الذي آتاكم } والأولى حمل ما في الآية على القولين جميعا لصدق الرقاب على شراء العبد واعتاقه ، وعلى إعانة المكاتب على مال الكتابة .

{ والغارمين } هم الذين ركبتهم الديون ولا وفاء عندهم بها ، ولا خلاف في ذلك إلا من لزمه دين في سفاهة فإنه لا يعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب وقد أعان النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصدقة من تحمل حمالة وأرشد إلى إعانته منها ، وقال السيوطي : ولإصلاح ذات البين ولو أغنياء إذا استدانوه لذلك ، وأصل الغرم في اللغة لزوم ما يشق على النفس وسمي الدين غرما لكونه شاقا على الإنسان ومنه قيل للعشق غرام ويعبر به عن الهلاك في قوله تعالى : { إن عذابها كان غراما } وغرامة المال فيه مشقة عظيمة .

{ وفي سبيل الله } هم الغزاة والمرابطون يعطون من الصدقة ما ينفقون في غزوهم ومرابطتهم وإن كانوا أغنياء ، وهذا قول أكثر العلماء وقال ابن عمر : هم الحجاج والعمار ، وروي عن أحمد وإسحاق أنهما جعلا الحج من سبيل الله ، وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يعطى الغازي إلا إذا كان فقيرا منقطعا به ، وقيل أن اللفظ عام فلا يجوز قصره على نوع خاص ، ويدخل فيه جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الجسور والحصون وعمارة المساجد وغير ذلك والأول أولى لإجماع الجمهور عليه .

{ وابن السبيل } هو المسافر ، والسبيل الطريق ونسب إليها المسافر لملازمته إياها ، والمراد الذي انقطعت به الأسباب في سفره عن بلده ومستقره فإنه يعطى منها وإن كان غنيا في بلده ، وإن وجد من يسلفه ، وقال مالك : إذا وجد من يسلفه فلا يعطى ، وقال قتادة : هو الضعيف ، وقال فقهاء العراق : هو الحاج المنقطع في سفره والأول أولى .

أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجة وابن المنذر وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة العامل عليها أو الرجل اشتراها بماله أو غارم أو غاز في سبيل الله أو مسكين تصدق عليه فأهدى منها لغني ) {[903]} .

وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عدي بن الخيار قال : أخبرني رجلان أنهما أتيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين فقال : إن شئتما أعطيتكما ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب{[904]} .

{ فريضة من الله } مصدر مؤكد لأن قوله : { إنما الصدقات للفقراء } معناه فرض الله الصدقات لهم ، والمعنى أن كون الصدقات مقصورة على هذه الأصناف هو حكم لازم فرضه الله على عباده ونهاهم عن مجاوزته ، وقيل أنها حال من الفقراء قاله الكرماني وأبو البقاء أي كائنة لهم حال كونها فريضة أي مصروفة أو هي بمعنى مفروضة أو مصدر وقع موقع الحال .

قال في الكشاف : فإن قلت لم عدل عن اللام إلى ( في ) في الأربعة الأخيرة قلت للإيذان بأنها أرسخ في استحقاق التصدق عليهم ممن سبق ذكره وقيل النكتة في العدول أن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا به كما شاءوا ، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة .

{ والله عليم } بمصالح عباده { حكيم } فيما فرض لهم لا يدخل في تدبيره وحكمه نقص ولا خلل ، قال السيوطي : فلا يجوز صرفها لغير هؤلاء ولا منع صنف منهم إذا وجد ، فيقسمها الإمام عليهم على السواء وله تفضيل بعض آحاد الصنف على بعض ، وأفادت اللام وجوب استغراق أفراده اه وهو ظاهر الآية .

وقال الرازي : لا دلالة في الآية على قول الشافعي في أنه لا بد من صرفها إلى الأصناف وقد أشار إلى ذلك القاضي ورد عليه بعض الشيوخ ، وقال : ظاهر الآية يؤيد قوله ، وتمام البحث في الجمل .


[900]:- الدارقطني كتاب الزكاة 2/ 137.
[901]:- الإمام أحمد 5/ 369.
[902]:- مسلم 1039- البخاري 788.
[903]:- أبو داوود، كتاب الزكاة، باب 25.
[904]:- أبو داود، كتاب الزكاة، باب 24.