قوله تعالى : { أفتطمعون } . أفترجون يريد : محمداً وأصحابه .
قوله تعالى : { أن يؤمنوا لكم } . تصدقكم اليهود بما تخبرونهم به .
قوله تعالى : { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } . يعني التوراة .
قوله تعالى : { ثم يحرفونه } . ويغيرون ما فيها من الأحكام .
قوله تعالى : { من بعد ما عقلوه } . علموه كما غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم .
قوله تعالى : { وهم يعلمون } . أنهم كاذبون ، هذا قول مجاهد وقتادة وعكرمة والسدي وجماعة ، وقال ابن عباس ومقاتل : نزلت في السبعين الذين اختارهم موسى لميقات ربه ، وذلك أنهم لما رجعوا بعد ما سمعوا كلام الله إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم ، وأما الصادقون منهم فأدوا كما سمعوا ، وقالت طائفة منهم : سمعنا الله يقول في آخر كلامه : إن استطعتم أن تفعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا ، فهذا تحريفهم وهم يعلمون أنه الحق .
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ * أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }
هذا قطع لأطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب ، أي : فلا تطمعوا في إيمانهم وحالتهم{[91]} لا تقتضي الطمع فيهم ، فإنهم كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه وعلموه ، فيضعون له معاني ما أرادها الله ، ليوهموا الناس أنها من عند الله ، وما هي من عند الله ، فإذا كانت هذه حالهم في كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله ، فكيف يرجى منهم إيمان لكم ؟ ! فهذا من أبعد الأشياء .
{ أفتطمعون } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين { أن يؤمنوا لكم } أن يصدقوكم ، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم . يعني اليهود . { وقد كان فريق منهم } طائفة من أسلافهم { يسمعون كلام الله } يعني التوراة . { ثم يحرفونه } كنعت محمد صلى الله عليه وسلم ، وآية الرجم . أو تأويله فيفسرونه بما يشتهون . وقيل هؤلاء من السبعين المختارين سمعوا كلام الله تعالى حين كلم موسى عليه السلام بالطور ، ثم قالوا سمعنا الله تعالى يقول في آخره : إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا . { من بعد ما عقلوه } أي فهموه بعقولهم ولم يبق لهم فيه ريبة . { وهم يعلمون } أنهم مفترون مبطلون ، ومعنى الآية : أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة ، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم ، وأنهم إن كفروا وحرفوا فلهم سابقة في ذلك .
هذا اعتراض استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها : { وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تَعبدون } [ البقرة : 83 ] فجميع الجمل من قوله تعالى : { أفتطمعون } إلى قوله : { وإذ أخذنا } داخلة في هذا الاستطراد .
والفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري أو التعجيبي على جملة { ثم قست } [ البقرة : 74 ] أو على مجموع الجمل السابقة لأن جميعها مما يقتضي اليأس من إيمانهم بما جاء به النبيء صلى الله عليه وسلم فكأنَّه قيل : فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فَاعْجَبُوا من طمعكم ، وسيأتي تحقيق موقع الاستفهام مع حرف العطف في مثله عند قوله تعالى : { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم } [ البقرة : 87 ] .
والطمع ترقب حصول شيء محبوب وهو يرادف الرجاء وهو ضد اليأس ، والطمع يتعدى بفي حذفت هنا قبل { أَنْ } .
فإن قلت ، كيف يُنهى عن الطمع في إيمانهم أو يُعَجَّب به والنبيء والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى الإيمان دائماً ؟ وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته لتعلق عِلْمِ الله بعدم وقوعه ؟
قلت : إنما نُهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضاً ، ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفساً نيّرة فتنفعها ، فإن استبعاد إيمانه حُكم على غالبهم وجَمْهَرتهم أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم والمسألة أخص من تلكَ المسألة لأن مسألة التكليف بالمحال لتعلق العلم بعدم وقوعه مفروضة فيما عَلِمَ الله عدَم وقوعه وتلك قد كنا أجبنا لكم فيها جواباً واضحاً وهو أن الله تعالى وإن عَلِمَ عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه لم يطلعنا على ما عَلمه فيه والأوامر الشرعية لم تجئ بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال كيف أُمر مع علم الله بأنه لا يؤمن ، وأما هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال فالجواب عنها يرجع إلى الجواب الأعم وهو أن الدعاء لأجل إقامة الحجة وهو الجواب الأعم لأصحابنا في مسألة التكليف بما علم الله عدم وقوعه ، على أن بعض أحوالهم قد تتغير فيكون للطماعية بعدَ ذلك حظ .
واللام في قوله : { لكم } لتضمين { يؤمنوا } معنى يُقِرُّوا وكأنَّ فيه تلميحاً إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى : { الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } [ البقرة : 146 ] الآية فما أبدعَ نسج القرآن . ويجوز حمل اللام على التعليل وجعل { يؤمنوا } مُنزَّلاً منزلة اللازم تعريضاً بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم .
وقوله : { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله } جملة حالية هي قيدُ إنكار الطمع في إيمانهم فيكون قد عُلل هذا الإنكار بعلتين إحداهما بالتفريع على ما عَلِمْناه ، والثانية بالتقييد بما عَلَّمَنَاه .
وقوله : { فريق منهم } يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أو من الحاضرين في زمن نزول الآية .
وسماعهم كلامَ الله على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاءوا من بعده . أما سماع كلام الله مباشرة فلم يقع إلا لموسى عليه السلام . وأيًّا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون عامتهم .
والتحريف أصله مصدر حَرَّف الشيء إذا مال به إلى الحرف وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق ، ولمَّا شاع تشبيه الحق والصواب والرشد والمكارم بالجادة وبالصراط المستقيم شاع في عكسه تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف وببنيات الطريق . قال الأشتر :
بقَّيْتُ وفْرى وانحرفتُ عن العُلا *** ولَقِيتُ أَضْيَافِي بوَجْهٍ عَبُوسٍ
ومن فروع هذا التشبيه قولهم : زَاغ ، وحاد ومَرق ، وألْحَد وقوله تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على حرف } [ الحج : 11 ] . فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به ، إما بتبديل وهو قليل وإما بكتمان بعض وتناسيه وإما بالتأويل البعيد وهو أكثر أنواع التحريف .
وقوله : { وهم يعلمون } حال من { فريق } وهو قيد في القَيد يعني يسمعونه ثم يعقلونه ثم يحرفونه وهم يعلمون أنهم يحرفون ، وأن قوماً توارثوا هذه الصفة لا يطمع في إيمانهم لأن الذين فعلوا هذا إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم فالغالب أن يكون خلقهم واحداً وطباعهم متقاربة كما قال نوح عليه السلام : { ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } [ نوح : 27 ] وللعرب والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث ، ولذلك كانوا يصفون القبيلة بصفات جمهورها ، أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم ، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم فكيف ظنكم بصفات دهمائمهم لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغاً شنيعاً فاعلم أن العامة أفظع وأشنع ، وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم وإن كان فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع .