الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

{أفَتَطْمَعُونَ} يا أصحاب محمد، أي: أفترجون يا معشر المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم والمصدّقين ما جاءكم به من عند الله أن يؤمن لكم يهود بني إسرائيل؟.

{أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}: أن يصدقوكم بما جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم محمد من عند ربكم...

" وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ": أما الفريق، فجمع كالطائفة لا واحد له من لفظه، وهو فعيل من التفرّق سمي به الجماع كما سميت الجماعة بالحزب من التحزّب وما أشبه ذلك،

{مِنْهُمْ}: من بني إسرائيل. وإنما جعل الله الذين كانوا على عهد موسى ومن بعدهم من بني إسرائيل من اليهود الذين قال الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم} لأنهم كانوا آباءهم وأسلافهم، فجعلهم منهم إذ كانوا عشائرهم وفرطهم وأسلافهم، كما يذكر الرجل اليوم الرجل وقد مضى على منهاج الذاكر وطريقته وكان من قومه وعشيرته، فيقول: كان منا فلان: يعني أنه كان من أهل طريقته أو مذهبه أو من قومه وعشيرته فكذلك قوله: {وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ}.

{يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

اختلف أهل التأويل في الذي َعنَى الله بقوله: {وَقَدْ كان فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

فقال بعضهم... عن مجاهد في قول الله: {أفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فالذين يحرّفونه والذين يكتمونه: هم العلماء منهم...

عن السدي: {أَفَتَطْمَعُونَ أنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفونَهُ منْ بَعْدِ ما عَقَلُوه} قال: هي التوراة حرّفوها...

وقال آخرون في ذلك... عن الربيع في قوله: {وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَه مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، فكانوا يسمعون من ذلك كما يسمع أهل النبوّة، ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون...

وأولى التأويلين اللذين ذكرت بالآية وأشبههما بما دل عليه ظاهر التلاوة، ما قاله الربيع بن أنس والذي حكاه ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، من أن الله تعالى ذكره إنما عنى بذلك من سمع كلامه من بني إسرائيل سماع موسى إياه منه، ثم حرّف ذلك وبدّل من بعد سماعه وعلمه به وفهمه إياه. وذلك أن الله جل ثناؤه إنما أخبر أن التحريف كان من فريق منهم، كانوا يسمعون كلام الله عزّ وجلّ استعظاما من الله لما كانوا يأتون من البهتان بعد توكيد الحجة عليهم والبرهان، وإيذانا منه تعالى ذكره عباده المؤمنين وقطع أطماعهم من إيمان بقايا نسلهم بما أتاهم به محمد من الحقّ والنور والهدى، فقال لهم: كيف تطمعون في تصديق هؤلاء اليهود إياكم وإنما تخبرونهم بالذي تخبرونهم من الإنباء عن الله عزّ وجلّ عن غيب لم يشاهدوه ولم يعاينوه؟ وقد كان بعضهم يسمع من الله كلامه وأمره ونهيه، ثم يبدّله ويحرّفه ويجحده، فهؤلاء الذين بين أظهركم من بقايا نسلهم أحرى أن يجحدوا ما أتيتموهم به من الحقّ وهم لا يسمعونه من الله، وإنما يسمعونه منكم وأقرب إلى أن يحرّفوا ما في كتبهم من صفة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ويبدّلوه وهم به عالمون، فيجحدوه ويكذّبوا من أوائلهم الذين باشروا كلام الله من الله جل ثناؤه ثم حرّفوه من بعد ما عقلوه وعلموه متعمدين التحريف.

ولو كان تأويل الآية على ما قاله الذين زعموا أنه عنى بقوله: {يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ} يسمعون التوراة، لم يكن لذكر قوله: "يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّهِ "معنى مفهوم، لأن ذلك قد سمعه المحرّف منهم وغير المحرّف. فخصوص المحرّف منهم بأنه كان يسمع كلام الله إن كان التأويل على ما قاله الذين ذكرنا قولهم دون غيرهم ممن كان يسمع ذلك سماعهم لا معنى له.

فإن ظن ظانّ إنما صلح أن يقال ذلك لقوله: {يُحَرّفُونَهُ} فقد أغفل وجه الصواب في ذلك. وذلك أن ذلك لو كان كذلك لقيل: أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يحرّفون كلام الله من بعد ما عقلوه وهم يعلمون، ولكنه جل ثناؤه أخبر عن خاص من اليهود كانوا أعطوا من مباشرتهم سماع كلام الله تعالى ما لم يعطه أحد غير الأنبياء والرسل، ثم بدلوا وحرّفوا ما سمعوا من ذلك، فلذلك وصفهم بما وصفهم به للخصوص الذي كان خصّ به هؤلاء الفريق الذي ذكرهم في كتابه تعالى ذكره.

{ثُمّ يُحَرّفُونَهُ} ثم يبدلون معناه، وتأويله: ويغيرونه. وأصله من انحراف الشيء عن جهته، وهو ميله عنها إلى غيرها. فكذلك قوله: {يُحَرّفُونَهُ}: أي يميلونه عن وجهه، ومعناه الذي هو معناه إلى غيره. فأخبر الله جل ثناؤه أنهم فعلوا ما فعلوا من ذلك على علم منهم بتأويل ما حرّفوا، وأنه بخلاف ما حرّفوه إليه، فقال: {يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ} يعني من بعد ما عقلوا تأويله. "وَهُمْ يَعْلَمُونَ" أي يعلمون أنهم في تحريفهم ما حرّفوا من ذلك مبطلون كاذبون. وذلك إخبار من الله جل ثناؤه عن إقدامهم على البهت، ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى صلى الله عليه وسلم، وأن بقاياهم من مناصبتهم العداوة لله ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا على مثل الذي كان عليه أوائلهم من ذلك في عصر موسى عليه الصلاة والسلام.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

الالف في قوله أفتطمعون ألف استفهام والمراد به الإنكار، كقوله: {ألم يأتكم نذير قالوا بلى} فاذا كان في الأول نفيا، كان الجواب بلى واذا لم يكن نفيا كان الجواب لا. وهذا خطاب لأمة النبي صلى الله عليه وسلم فكأنه قال: أفتطمعون أيها المؤمنون أن يؤمنوا لكم من طريق النظر والاعتبار، ونفي التشبيه، والانقياد للحق وقد كان فريق منهم: أي ممن هو في مثل حالهم من اسلافهم يسمعون كلام الله ثم يعلمون أنه الحق، ويعاندون فيحرفونه ويتأولونه، على غير تأويله...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

أنبأهم عن إيمانهم، وذكر أنهم بعد سماع الخطاب من الله -سبحانه- حرَّفوا وبدّلوا فكيف يؤمنون لكم وإنما يسمعون بواسطة الرسالة، ومن لم يَبقَ على الإيمان بعد العيان فكيف يؤمن بالبرهان، والذي لم يصلح للحق لا يصلح لكم، ومن لم يحتشم من الحق فكيف يحتشم منكم؟...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ}: من بعد ما فهموه وضبطوه بعقولهم ولم تبق لهم شبهة في صحته

{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كاذبون مفترون. والمعنى: إن كفر هؤلاء وحرّفوا فلهم سابقة في ذلك...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وتحريف الشيء إحالته من حال إلى حال، وذهب ابن عباس رضي الله عنه إلى أن تحريفهم وتبديلهم إنما هو بالتأويل ولفظ التوراة باقٍ، وذهب جماعة من العلماء إلى أنهم بدلوا ألفاظاً من تلقائهم وأن ذلك ممكنٌ في التوراة لأنهم استحفظوها، وغير ممكن في القرآن لأن الله تعالى ضمن حفظه...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

ومعنى الآية: أن أحبار هؤلاء ومقدميهم كانوا على هذه الحالة، فما ظنك بسفلتهم وجهالهم...

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

الطمع: تعلق النفس بإدراك مطلوب تعالقاً قوياً، وهو أشدّ من الرجاء، لأنه لا يحدث إلا عن قوة رغبة وشدّة إرادة، وإذا اشتدّ صار طمعاً، وإذا ضعف كان رغبة ورجاء...

وهذه الأقاويل كلها لا تخرج عن أن الحديث في اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم الذين يصح فيهم الطمع أن يؤمنوا...

والضمير في {أن يؤمنوا لكم} لليهود. والمعنى: استبعاد إيمان اليهود، إذ قد تقدّم لأسلافهم أفاعيل، وجزى أبناؤهم عليها.

والإنكار على العالم أشدّ من الإنكار على الجاهل، لأن عند العالم دواعي الطاعة، لما علم من ثوابها، وتواني المعصية لما علم من عقابها.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما بيّن سبحانه أن قلوبهم صارت من كثرة المعاصي وتوالي التجرّؤ على بارئها محجوبة بالرين كثيفة الطبع، بحيث إنها أشد قسوة من الحجارة، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان، فالتفت إلى المؤمنين يؤيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم والتبكيت لهم منكراً للطمع في إيمانهم بعد ما قرر أنه تكرر من كفرانهم...

{ثم يحرفونه} أي يزيلونه عن وجهه برده على حرفه، وفي ذكر الفريق مع المعطوفات عليه تأكيد لعظيم تهكمّهم في العصيان بأنهم كانوا بعد ما وصف من أحوالهم الخبيثة فرقاً في الكفر والعدوان والتبرؤ من جلباب الحياء،

{من بعد ما عقلوه} مع كونه توطئة لما يأتي من أمر الفسخ مشيراً إلى أن تحريفهم لم يكن في محل إشكال لكونه مدركاً بالبديهة، وأثبت الجار لاختلاف أحوالهم. ولما كان هذا مع أنه إشارة إلى أنهم على جبلات إبائهم وإلى أن من اجترأ على الله لم ينبغ لعباد الله أن يطمعوا في صلاحه لهم، لأنه إذا اجترأ على العالم بالخفيات كان على غيره أجرأ مشيراً إلى أنه لا يفعله عاقل.

{وهم يعلمون} أي والحال أنهم مع العقل حاملون للعلم فاهمون له غير غافلين بل متعمدون...

فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :

والمراد من التحريف: أنهم عمدوا إلى ما سمعوه من التوراة، [فجعلوه]... [موافقا] لأهوائهم كتحريفهم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإسقاط الحدود عن أشرافهم، أو سمعوا كلام الله لموسى فزادوا فيه، ونقصوا، وهذا إخبار عن إصرارهم على الكفر، وإنكار على من طمع في إيمانهم، وحالهم هذه الحال: أي: ولهم سلف حرفوا كلام الله، وغيروا شرائعه، وهم مقتدون بهم، متبعون سبيلهم. ومعنى قوله: {مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} أي: من بعد ما فهموه بعقولهم مع كونهم يعلمون أن ذلك الذي فعلوه تحريف مخالف لما أمرهم الله به من [تبليغ] شرائعه كما هي، فهم وقعوا في المعصية عالمين بها، وذلك أشد لعقوبتهم، وأبين لضلالهم...

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يرون أن أولى الناس بالإيمان وأقربهم منه اليهود، لأنهم موحدون ومصدقون بالوحي والبعث في الجملة، ولذلك كانوا يطمعون بدخولهم في الإسلام أفواجا لأنه مصدق لما معهم في الجملة، ومحل لجميع شبهات الدين وحال لجميع إشكالاته بالتفصيل، وواضع له على قواعد لا ترهق الناس عسرا {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}. كان هذا الطمع في إيمانهم مبنيا على وجه نظري معقول لولا أنهم اكتفوا بجعل الدين رابطة جنسية، ولم يجعلوه هداية روحية، ولذلك كانوا يتصرفون فيه باختلاف المذاهب والآراء، ويحرفون كلمه عن مواضعه بحسب الأهواء، وما أعذر الله المؤمنين في طمعهم هذا إلا بعد ما قص عليهم من نبأ بني إسرائيل الذين كانوا على عهد التشريع وشاهدوا الآيات ما علم به أنهم في المجاحدة والمعاندة على عرق راسخ ونحيزة موروثة لا يكفي في زلزالها كون القرآن مبينا في نفسه لا يتطرق إليه ريب، ولا يتسرب إليه شك، ولذلك بدأ السورة بوصف الكتاب بهذا وكونه هدى للمتقين من أهل الكتاب وغيرهم. وثنى ببيان أن من الناس من يعانده ويباهته، ومنهم المذبذب الذي يميل مع الريحين، فلا يثبت مع أحد الفريقين، ثم أفاض في شرح حال بني إسرائيل الذين لم يؤمن منهم إلا قليل من أهل العلم والتقوى، وكان الأكثرون أشد الناس استكبارا عن الإيمان وإيذاء للرسول ولمن اتبعه من المؤمنين. وبعد هذا كله أنكر على المؤمنين ذلك الطمع بدخول اليهود في دين الله أفواجا، ووصل الإنكار بحجة واقعة ناهضة، تجعل تلك الحجة النظرية داحضة، فعلم بهذا أن الكلام لا يزال متصلا في موضوع الكتاب وأصناف الناس بالنسبة إلى الإيمان به وعدم الإيمان. كلما بعد العهد جاء ما يذكر به تذكيرا.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يأخذ السياق في الاتجاه بالخطاب إلى الجماعة المسلمة يحدثها عن بني إسرائيل، ويبصرها بأساليبهم ووسائلهم في الكيد والفتنة؛ ويحذرها كيدهم ومكرهم على ضوء تاريخهم وجبلتهم، فلا تنخدع بأقوالهم ودعاويهم ووسائلهم الماكرة في الفتنة والتضليل. ويدل طول هذا الحديث، وتنوع أساليبه على ضخامة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من الكيد المنصوب لها والمرصود لدينها من أولئك اليهود!...

و [لا] تزال الأمة المسلمة تعاني من دسائس اليهود ومكرهم ما عاناه أسلافها من هذا المكر ومن تلك الدسائس؛ غير أن الأمة المسلمة لا تنتفع -مع الأسف- بتلك التوجيهات القرآنية، وبهذا الهدى الإلهي، الذي انتفع به أسلافها، فغلبوا كيد اليهود ومكرهم في المدينة، والدين ناشيء، والجماعة المسلمة وليدة...

و [لا] يزال اليهود -بلؤمهم ومكرهم- يضللون هذه الأمة عن دينها، ويصرفونها عن قرآنها، كي لا تأخذ منه أسلحتها الماضية، وعدتها الواقية. وهم آمنون ما انصرفت هذه الأمة عن موارد قوتها الحقيقية، وينابيع معرفتها الصافية...

وكل من يصرف هذه الأمة عن دينها وعن قرآنها فإنما هو من عملاء يهود؛ سواء [أعرف] أم لم يعرف، أراد أم لم يرد، فسيظل اليهود في مأمن من هذه الأمة ما دامت مصروفة عن الحقيقة الواحدة المفردة التي تستمد منها وجودها وقوتها وغلبتها -حقيقة العقيدة الإيمانية والمنهج الإيماني والشريعة الإيمانية- فهذا هو الطريق...

[لقد] كانت صورة الجفاف والقسوة والجدب هي التي صور الله بها قلوب بني إسرائيل في نهاية الدرس الماضي. صورة الحجارة الصلدة التي لا تنض منها قطرة، ولا يلين لها ممس، ولا تنبض فيها حياة...

وهي صورة توحي باليأس من هذه الطبيعة الجاسية الجامدة الخاوية...

وفي ظل هذا التصوير، وظل هذا الإيحاء، يلتفت السياق إلى المؤمنين، الذين يطمعون في هداية بني إسرائيل، ويحاولون أن يبثوا في قلوبهم الإيمان، وأن يفيضوا عليها النور...

يلتفت إلى أولئك المؤمنين بسؤال يوحي باليأس من المحاولة، وبالقنوط من الطمع: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم؟ وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون؟)...

إلا أنه لا مطمع ولا رجاء في أن يؤمن أمثال هؤلاء. فللإيمان طبيعة أخرى، واستعداد آخر. إن الطبيعة المؤمنة سمحة هينة لينة، مفتحة المنافذ للأضواء، مستعدة للاتصال بالنبع الأزلي الخالد بما فيها من نداوة ولين وصفاء. وبما فيها من حساسية وتحرج وتقوى. هذه التقوى التي تمنعها أن تسمع كلام الله ثم تحرفه من بعد تعقله. تحرفه عن علم وإصرار. فالطبيعة المؤمنة طبيعة مستقيمة، تتحرج من هذا التحريف والالتواء.

والفريق المشار إليه هنا هو أعلم اليهود وأعرفهم بالحقيقة المنزلة عليهم في كتابهم هم الأحبار والربانيون، الذين يسمعون كلام الله المنزل على نبيهم موسى في التوراة ثم يحرفونه عن مواضعه، ويؤولونه التأويلات البعيدة التي تخرج به عن دائرته. لا عن جهل بحقيقة مواضعه، ولكن عن تعمد للتحريف، وعلم بهذا التحريف. يدفعهم الهوى، وتقودهم المصلحة، ويحدوهم الغرض المريض! فمن باب أولى ينحرفون عن الحق الذي جاء به محمد [ص] وقد انحرفوا عن الحق الذي جاء به نبيهم موسى -عليه السلام- ومن باب أولى -وهذا خراب ذممهم، وهذا إصرارهم على الباطل وهم يعلمون بطلانه- أن يعارضوا دعوة الإسلام، ويروغوا منها ويختلقوا عليها الأكاذيب!...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

فإن قلت، كيف يُنهى عن الطمع في إيمانهم أو يُعَجَّب به والنبيء والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى الإيمان دائماً؟ وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته لتعلق عِلْمِ الله بعدم وقوعه؟ قلت: إنما نُهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان، لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضاً، ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفساً نيّرة فتنفعها، فإن استبعاد إيمانه حُكم على غالبهم وجَمْهَرتهم، أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم، والمسألة أخص من تلكَ المسألة، لأن مسألة التكليف بالمحال لتعلق العلم بعدم وقوعه مفروضة فيما عَلِمَ الله عدَم وقوعه، وتلك قد كنا أجبنا لكم فيها جواباً واضحاً وهو أن الله تعالى وإن عَلِمَ عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه لم يطلعنا على ما عَلمه فيه، والأوامر الشرعية لم تجئ بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال كيف أُمر مع علم الله بأنه لا يؤمن، وأما هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال

فالجواب عنها يرجع إلى الجواب الأعم، وهو أن الدعاء لأجل إقامة الحجة وهو الجواب الأعم لأصحابنا في مسألة التكليف بما علم الله عدم وقوعه، على أن بعض أحوالهم قد تتغير فيكون للطماعية بعدَ ذلك حظ...

واللام في قوله: {لكم} لتضمين {يؤمنوا} معنى يُقِرُّوا وكأنَّ فيه تلميحاً إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل، ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} [البقرة: 146] الآية فما أبدعَ نسج القرآن... {فريق منهم} يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أو من الحاضرين في زمن نزول الآية. وسماعهم كلامَ الله على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاءوا من بعده. أما سماع كلام الله مباشرة فلم يقع إلا لموسى عليه السلام.

وأيًّا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون عامتهم...

{وهم يعلمون} حال من {فريق} وهو قيد في القَيد يعني يسمعونه ثم يعقلونه ثم يحرفونه وهم يعلمون أنهم يحرفون، وأن قوماً توارثوا هذه الصفة لا يطمع في إيمانهم لأن الذين فعلوا هذا إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم فالغالب أن يكون خلقهم واحداً وطباعهم متقاربة كما قال نوح عليه السلام: {ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً} [نوح: 27]

وللعرب والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث، ولذلك كانوا يصفون القبيلة بصفات جمهورها، أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم فكيف ظنكم بصفات دهمائمهم لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها، فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغاً شنيعاً، فاعلم أن العامة أفظع وأشنع، وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم، وإن كان فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

ذكر الله تعالى أحوال بني إسرائيل عقب ما كان من إبليس لآدم عليه السلام، وقد كان ذكرهم بعد آدم وإن لم يكونوا أول أولاد آدم في الأرض، بل جاءوا بعده بمئات الألوف فيما نزعم، لأنهم أوضح صورة إنسانية، لتحكم إبليس في ابن آدم، فقد قامت بين أيديهم الأدلة، والآيات الحسية، والنعم، ومع ذلك كفروا وإذا كانت تلك حالهم في الماضي، والحاضرون يوافقونهم ويعتزون بهم مع هذه المآثم، ويحسبون أنهم بماضيهم الذي نسوه مفاخرون العرب، ويقولون فيهم: ما علينا في الأميين من سبيل، فإنه لا مطمع في إيمانهم؛ لأن الجاهل يطمع في إيمانه إذا علم وقامت البينات الداعية، أما المغتر المعاند في ماضيه وحاضره، فإنه لا مطمع في إيمانه والتعريض ب"ثم" يفيد البعد المعنوي بين ما سمعوه وعقلوه، وتدبروه، وعرفوا غايته، وبين التحريف الذي حرفوه مما يدل على فساد نفوسهم، وضلال قلوبهم.

وأخبر سبحانه وتعالى أن التحريف من بعد ما عقلوه، وعرفوه عرفان الخبير المدرك، الفاهم، لا أنهم حرفوا عن غير علم ومن غير معرفة بمدلولات الألفاظ ومراميها، ومقاصدها، وغاياتها، فتحريفهم بقصد التضليل، ومن يقصد التضليل يكون قلبه مصروفا عن الحقائق فلا يدركها، ولا يذعن لها إن أدركها، بل هو يصد عن سبيلها. ويجب في مقام ذكر معاني هذه الآية أن نذكر أمورا ثلاثة: أولها: أن الذين حرفوا القول عن مواضعه فريق منهم، وليسوا جميعا، فكيف يكون اليأس من إيمان كلهم بعمل فريق؟ والجواب عن ذلك أن الفريق الذي سمع أرضى بقوله الفريق الذي لم يسمع، بل إن الفريق الذي لم يسمع كان معرضا عن سماع النبي صلى الله عليه وسلم، فهو كان قابلا لاستماع القول المحرف راضيا به مصدقا له، فهم كانوا على سواء، وكذلك الأمر على التفسير بأن السماع كان من فريق من قوم موسى سمعوا من موسى وحرفوه، فقبله الآخرون وهم راضون، فكانوا مع غيرهم على سواء، ولا فرق بينهم.

الأمر الثاني: أنه إذا كان الفريق الذي حرف في عهد موسى أو بعده، فإن ذلك سائغ بعد موسى ثابت، والراجع للتوراة القائمة بين أيدينا يجد أمارات التحريف تلوح، وقد بينا ذلك في بحث رددنا به على بعض الكذابين، الذين قالوا في القرآن ما قالوا من افتراء وكذب رددناه في نحورهم. وقد أثبت كتاب النصارى أن التحريف لا يزال يجري في الكتب عندهم ما بين كتب العهد القديم، والجديد...

الأمر الثالث: الذي نشير إليه أن أثارة باقية في كتبهم ربما تكون صادقة، ولكن اختلطت بباطل كثير. كان اليهود يسمعون كلام الله تعالى، ثم يحرفونه من بعد أن يعقلوه، وهم يعلمون موضع التحريف.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

وأسلوب هذه الحلقة التفاني، فالحلقات الأولى خاطبت اليهود ونددت بهم وربطت بين مواقفهم ومواقف آبائهم. في حين أن هذه الحلقة التفتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لتذكرهم بما يقولون ويفعلون ولتبرهن لهم على أن الطمع في إيمانهم لا محل له مع هذه الأقوال والأفعال التي تصدر عنهم.

وقد يدل هذا على أن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها. والمتبادر أن ذلك كان تدريجيا، فالحلقة الأولى حكت جحودهم لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولا بد من أن يكون ذلك بعد فترة ما من وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. والمتبادر أن الحلقة الخامسة التي نحن في صددها قد نزلت بعد فترة ما من الحلقات السابقة؛ لأنها تضمنت نتيجة لمواقفهم المتنوعة التدريجية والله أعلم...

ولقد وقف المفسرون عند بعض عبارات الحلقة وأوردوا روايات عن المؤولين القدماء في صددها، وفي ما يلي ما رأينا فيه فائدة مع تعليقنا عليه:

- في صدد جملة {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} حيث رووا أنها حكاية عن ما كان القدماء يفعلونه وأن الأحبار القدماء، كانوا يحرفون معاني التوراة مقابل رشاوٍ تعطى لهم. والجملة تتحمل هذا بدون ريب غير أن جملة {وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا} المعطوفة عليها جعلتنا نرجح أن الصورة لليهود المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم.

- في صدد جملة {أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِندَ رَبِّكُمْ} رووا أن بعضهم كان يعترف للمسلمين بأن محمدا نبي حقا ولكنه مرسل للعرب. وأن آخرين نهوهم عن هذا الاعتراف؛ لأن فيه على كل حال حجة عليهم كما رووا أن بعض المسلمين كانوا يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن مطابقة ما جاء به مع كتبهم فكانوا يجيبونهم بإجابات إيجابية فنهاهم الآخرون عن ذلك. وفحوى العبارة وروحها متسقان مع هذه الروايات.

- في صدد جملة: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} رووا أن اليهود تجادلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ويستخلفنا قوم آخرون يعنون: محمدا وأصحابه فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنتم خالدون بها لا يخلفكم أحد، وأنزل الله الآية. كما رووا أن اليهود كانوا يقولون إن مدة الدنيا سبعة آلاف وأن الله يعذب الناس يوم القيامة لكل سنة يوما فأنزل الله الآية. والرواية الأولى قد تكون أكثر انسجاماً مع فحوى الآية مع القول: إن الآية منسجمة مع حلقة السلسلة انسجاماً تاماً. فإذا كان لهذه الرواية أصل فيكون أنهم قالوا ما قالوه قبل نزول الحلقة فرد الله عليهم قولهم في سياق آيات الحلقة. وعلى كل حال فروح الآيات وفحواها يفيد أن اليهود كانوا يتبجحون بالعلم والمعرفة والحظوة عند الله، وأن بعض المسلمين كانوا ينخدعون بذلك فيسألونهم عن أمور متنوعة فكانوا يجيبونهم بإجابات ينسبونها إلى كتب الله كذباً وتضليلاً فاقتضت حكمة الله تنبيه المسلمين إلى ذلك. وهناك حديث يرويه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه: «كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية لأهل الإسلام فقال رسول الله لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربّهم» [التاج 4/43]. حيث ينطوي في الحديث تنبيه نبوي أيضاً مع التنبيه على أن المتبادر من النهي في الحديث أنه لما لا يكون صدقه وكذبه معلوماً علماً يقينياً من السائل والمستمع. وأنه ليس فيه ما يمنع المسلم من التكذيب والتصديق إذا كان على علم يقيني بذلك والله أعلم...

لقد قلنا: إن اليهود قد أسفروا عن وجوههم ووقفوا نهائياً موقف الجحود للدعوة الإسلامية ومناوأتها على ما تلهمه هذه الحلقة بل السلسلة باستثناء أفراد منهم آمنوا وحسن إسلامهم، ونوهت بهم آيات سورة آل عمران [199] والنساء [162] فصار من المناسب الاستطراد إلى شرح أسباب ذلك فنقول: إنهم ظنوا على ما يبدو أن يجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم خارج نطاق دعوته معتبرين أنفسهم أهدى من أن تشملهم وأمنع من أن يأمل النبي صلى الله عليه وسلم دخولهم في دينه وانضواءهم إلى رايته بل كانوا يرون أن من حقهم أن ينتظروا انضمامه إليهم كما يمكن أن تلهمه آيات عديدة منها آية البقرة هذه: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ {120}} وهذه: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {111}} وهذه: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {135} ولا سيما حينما رأوه يصلي إلى قبلتهم ويعلن إيمانه بأنبيائهم وكتبهم بلسان القرآن ويجعل ذلك جزءاً لا يتجزأ من دعوته ويتلو فيما يتلوه: {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ {90}} [الأنعام: 90] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ {23} وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ {24}} [السجدة: 23-24] {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16] فخاب ظنهم ورأوه يدعوهم في جملة الناس بل يختصهم بلسان القرآن أحياناً بالدعوة ويندد بهم لعدم إسراعهم إلى استجابتها ولموقفهم منها موقف الانقباض ثم موقف التعطيل والتناقض على ما جاء في الآيات [40-44] من الحلقة الأولى فكان هذا على ما هو المتبادر باعثاً على تنكرهم للدعوة وحقدهم على صاحبها منذ الخطوات الأولى من العهد المدني. ثم رأوا الناس قد أخذوا ينصرفون عنهم ويتخذون النبي صلى الله عليه وسلم مرجعهم الأعلى ومرشدهم الأعظم وقائدهم المطاع فاستشعروا – حقاً أو باطلاً – بالخطر العظيم يحدق بمركزهم وامتيازاتهم ومصالحهم فاندفعوا في خطة التنكر والحقد والتآمر والصدّ والتعطيل والتحالف مع المنافقين ثم مع مشركي العرب إلى نهايتها.

ولقد كان من المتوقع على ما تلهمه آيات عديدة مكية ومدنية أن يجد النبي صلى الله عليه وسلم في اليهود سنداً وعضداً، وأن يكونوا أول من يؤمن به ويصدقه ويلتف حوله لما كان بين دعوته وأسس دينهم من وحدة، ولما احتواه القرآن من تقريرات متنوعة وكثيرة بأنه مصدق لما بين يديه، وبأنه محتوٍ حلّ المشاكل والخلافات التي يتعثر فيها الكتابيون وهم منهم باستشهاد الكتابيين على صحة رسالته استشهاداً ينطوي على الثقة فيهم والتنويه بهم، ولما رآه من حسن استجابة الكتابين وفيهم أناس من بني إسرائيل إلى دعوته واندماجهم فيها ووقوفهم منها موقف المصدق المؤمن المؤيد على ما احتوته آيات مكية عديدة أوردناها في مناسبات عديدة سابقة، فلما رأى منهم ما رآه من الانقباض أولاً والتنكر والصد وكتم الحق عن علم والتحالف مع الأعداء والدسائس والتشكيك تأثر تأثراً عميقاً من خيبة أمله فيهم فرددته هذه الآيات وكثير غيرها في الحلقات السابقة والآتية...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

يعطينا الحق تبارك وتعالى هنا الحكمة.. فيما رواه لنا عن بني إسرائيل وعن قصصهم. لأنهم سيكون لهم دور مع المسلمين في المدينة، ثم في بيت المقدس، ثم في المسجد الأقصى...

فهو يروي لنا كيف أتعبوا نبيهم وكيف عصوا ربهم. وكيف قابلوا النعمة بالمعصية والرحمة بالجحود. وإذا كان هذا موقفهم يا محمد مع الله ومع نبيهم... فلا تطمع أن يؤمنوا لك ولا أن يدخلوا في الإسلام، مع أنهم عندهم التوراة تدعوهم إلى الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام...

هذه الآيات تحمل أعظم تعزية للرسول الكريم. وتطالبه ألا يحزن على عدم إيمان اليهود به لأنه عليه البلاغ فقط؛ ولكن حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤمن كل أهل الأرض يهود ونصارى وكفاراً، ليس معناه أنه لم يفهم مهمته، ولكن معناه أنه أدرك حلاوة التكليف من ربه، بحيث يريد أن يهدي كل خلق الله في الأرض... فيطمئنه الله ويقول له لا تعتقد أنهم سيؤمنون لك. وليس معنى عدم إيمانهم أنك لست صادقا... فتكذيبهم لك لا ينبغي أن يؤثر فيك... فلا تطمع يا محمد أن يؤمنوا لك...

ما هو الطمع؟... الطمع هو رغبة النفس في شيء غير حقها وإن كان محبوبا لها...

والأصل في الإنسان العاقل ألا يطمع إلا في حقه...

والإنسان أحيانا يريد أن يرفه حياته ويعيش مترفا ولكن بحركة حياته كما هي. نقول له إذا أردت أن تتوسع في ترفك فلابد أن تتوسع في حركة حياتك؛ لأنك لو أترفت معتمدا على حركة حياة غيرك فسيفسد ميزان حركة الحياة في الأرض، أي إن كنت تريد أن تعيش حياة متزنة فعش على قدر حركة حياتك؛ لأنك إن فعلت غير ذلك تسرق وترتش وتفسد. فإن كان عندك طمع فليكن فيما تقدر عليه. إذن فكلمة "أفتطمعون "هنا تحدد أنه يجب ألا نطمع إلا فيما نقدر عليه. هؤلاء اليهود هل نقدر على أن نجعلهم يؤمنون؟ يقول الله تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم... هذا أمر زائد على ما كلفت به... لأن عليك البلاغ، وحتى لو كان محببا إلى نفسك... فإن مقدماتهم مع الله لا تعطيك الأمل في أنك ستصل إلى النتيجة التي ترجوها...

والحق سبحانه وتعالى يقول: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله} انظر إلى الأمانة والدقة... فريق منهم ليس كلهم...

هذا هو ما استنبط منه العالم نظرية صيانة الاحتمال... وهي عدم التعميم بحيث تقول أنهم جميعا كذا. لابد أن تضع احتمالا في أن شخصا ما سيؤمن أو سيشذ أو سيخالف...

هنا فريق من أهل الكتاب عرفوا صفات رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل... وعندما بعث آمنوا به، وهؤلاء لم يحرفوا كلام الله.

لو أن القرآن جاء بالحكم عاما لتغيرت نظرة الكافرين للإسلام... ولقالوا لقد قال عنا هذا الدين أننا حرفنا كتاب الله ولكننا لم نحرفه ونحن ننتظر رسوله... فكأن هذا الحكم غير دقيق... لأن الله الذي نزل هذا القرآن لا يخفي عليه شيء ويعرف ما في قلوبنا جميعا... ولكن لأن الآية الكريمة تقول أن فريقا منهم كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه...

وهذه الآية فيها تسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما سيلاقيه مع اليهود. وتعطيه الشحنة الإيمانية التي تجعله يقابل عدم إيمان هؤلاء بقوة وعزيمة... لأنه كان يتوقعه فلا يحزن ولا تذهب نفسه حسرات، لأن الله تبارك وتعالى قد وضع في نفسه التوقع لما سيحدث منهم... فإذا جاء تصرفهم وفق ما سيحدث... يكون ذلك أمرا محتملا من النفس...

تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :

الفوائد:

. من فوائد الآية: أن من كان لا يؤمن بما هو أظهر فإنه يبعد أن يؤمن بما هو أخفى؛ لأن من يسمع كلام الله، ثم يحرفه، أبْعَدُ قبولاً للحق ممن لم يسمعه...

ومنها: أن الله تعالى يسلي رسوله صلى الله عليه وسلم بما يذهب عنه الأسى، والحزن؛ حيث بين له حال هؤلاء، وأنهم قوم عتاة لا مطمع في إيمانهم...

ومنها: أن هؤلاء اليهود قد حرفوا كلام الله، لقوله تعالى: (ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه)...

ومنها: بيان قبح تحريف هؤلاء اليهود، لأنهم حرفوا ما عقلوه؛ والتحريف بعد عقل المعنى أعظم؛ لأن الإنسان الجاهل قد يعذر بجهله؛ لكن الإنسان العالم الذي عقل الشيء يكون عمله أقبح؛ لأنه تجرأ على المعصية مع علمه بها. فيكون أعظم...

ومنها: قبح تحريف كلام الله، وأن ذلك من صفات اليهود؛ ومن هذه الأمة من ارتكبه، لكن القرآن محفوظ؛ فلا يمكن وقوع التحريف اللفظي فيه؛ لأنه يعلمه كل أحد؛ وأما التحريف المعنوي فواقع، لكن يقيض الله عزّ وجلّ من الأئمة، وأتباعهم من يبينه، ويكشف عوار فاعله...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} وهذا خطاب للنبيّ وللمؤمنين معه الذين كانوا يطمعون في إيمان اليهود في المدينة لأنهم أهل كتاب، فقد اطلعوا على ما في التوراة من حقائق العقيدة والشريعة والبشارة بالنبيّ محمَّد (صلى الله عليه وسلم) مما جاء القرآن مصدِّقاً له، الأمر الذي يجعل الحقيقة الإسلامية واضحة أمامهم بحيث لا مجال فيها لأية شبهة، بل قد تكون المسألة في الوجدان الإسلامي للمسلمين في علاقتهم باليهود أنهم قد يتحوّلون إلى دعاةٍ للإسلام من موقع الوعي العقيدي المرتكز على العلم الذي حصلوا عليه من التوراة، ولكنَّ القرآن يؤكد للمسلمين أنَّ المشكلة لدى هؤلاء ليست كالمشكلة لدى غيرهم من الكافرين، وهي مسألة جهلهم بالإسلام وبالحقائق الكامنة فيه، ليحتاج النبيّ إلى جهد كبير في تعليمهم الكتاب والحكمة والدخول معهم في حوار طويل، بل المشكلة مشكلة عنادٍ مع سبق الإصرار، انطلاقاً من أنَّ قضية الدِّين لم تكن لديهم قضية التزام فكري وعملي، بل هي قضية تأكيد للذات على مستوى ذهنية المهنة التي تمنح صاحبها موقعاً اجتماعياً متقدّماً، وربحاً مادياً كبيراً، مما يؤدي بهم إلى تحريف النص الديني إلى غير ما يوحي به من الحقائق، ليسخّروه في خدمة أطماعهم وشهواتهم، ويوظفوه لهذا الطاغية وذاك المنحرف، ويؤوّلوه على حسب الأوضاع الطارئة الموجودة في واقعهم، كما كانوا يقولون عن المسلمين في حديثهم عن المشركين: {هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51] مع وضوح الضلال الإشراكي في عبادتهم للأوثان، والهدى الإسلامي في توحيد اللّه في العقيدة والعبادة، لذلك فإنَّ قضية الكفر عندهم لم تكن منطلقة من الفكر المضاد، بل من الذاتيات المنحرفة الغارقة في الأطماع والشهوات، وهذا هو النموذج الذي تمثّله القوى المتقدّمة فيهم...

{وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللّه} ويدركون معانيه وإيحاءاته ودلالاته التي تقودهم إلى معرفة الحقّ في الدِّين الجديد والصدق في النبيّ المرسل،

{ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ} ويؤوّلونه، ويبتعدون به عن ظاهره إلى معنى آخر، لا علاقة له بالحقائق العقيدية الإيمانية

{مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ} وعرفوه في عمقه وامتداده، بحيث لم تكن هناك شبهة،

{وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ويجعلون الحرام حلالاً والحلال حراماً، ويقولون: {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] فيحلّون لأنفسهم نهب أموال العرب الذين يطلقون عليهم اسم الأميين، بحجة أنَّ التوراة تبيح لهم ذلك. فكيف تطمعون أن يؤمنوا لكم بعد ذلك، لأنَّ الإيمان لا بُدَّ من أن يتحرّك من موقع قلق المعرفة الباحثة عن الحقّ، وإرادة الإيمان المنطلقة في خطّ الفكر. وقد كان هذا الاتجاه المتحرّك من موقع الأمل الكبير يشكّل خطورةً على مسار العمل الإسلامي، لأنَّ ذلك يضيّع كثيراً من الجهود الفكرية والعملية التي يحتاج الإسلام إلى بذلها في مجال آخر نافع، باعتبار أنَّ إيمانهم ليس وارداً في حسابهم في واقع الحال، ولأنَّ ذلك يسلم المسلمين إلى السذاجة الروحية، وفقدان الحذر اللازم، عندما يدخل بعض اليهود في الإسلام، فيحصلون على الثقة التي تمنحهم حرية التحرّك في تخريب الإسلام من الداخل، انطلاقاً من صفة الإيمان التي حصلوا عليها، ولأنَّ إغفال المعرفة الحقيقية لما هُم عليه، يُعطّل على المسيرة الإسلامية التحرّك الفعلي ضدّ المخططات التي كانوا يرسمونها في الخفاء للقضاء على الإسلام والمسلمين.

وعلى ضوء ذلك، نشعر بأنَّ عملية تعرية الواقع الحاضر، بعد عملية تعرية التاريخ، ضرورة لحفظ الدعوة الإسلامية والمجتمع الإسلامي من أخطار السذاجة والتضليل؛ وذلك بالالتفات إلى أنَّ هداية أيّ شخص لأية فكرة تتوقف على شرط الاستعداد النفسي لتقبّل هذه الفكرة أو الإيمان بها، وخاصة في الحالات التي يعيش فيها البساطة الذهنية والقلق الروحي إزاء معرفة المجهول، فعندها يكون مستعداً للأخذ والردّ والدخول في عمليات الحوار في مختلف الجوانب... أمّا هؤلاء، فقد أغلقوا نوافذ أفكارهم عن كلّ شيء جديد، لأنهم لا يتعاملون مع الحقّ بروحية الإيمان الذي يبحث عن الفكرة ليرتبط بها، بل بعقلية التاجر الذي يريد أن يحقّق لنفسه الربح المادي الوفير من خلاله، فإذا فقد هذه الفرصة اتجه إلى التحريف، ليستطيع أن يحقّق لنفسه رغباتها على أساس ذلك، وهذا ما عرفوه من آيات اللّه في التوراة، فقد عرفوا الحقّ من خلالها كأوضح ما يكون، ولكنَّهم حرفوه عندما وجدوا أنهم لا يستطيعون أن يحقّقوا لأنفسهم فيه مكسباً ومطمعاً ذاتياً...

وفي ضوء ذلك، لا مجال لأي تفكير أو طمع رسالي بهدايتهم أمام هذه الروح الغارقة في الضلال...