محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

ولما بيّن سبحانه وتعالى قساوة قلوبهم ، تسبب عن ذلك بعدهم عن الإيمان ، فالتفت إلى المؤمنين يُؤْيسهم من فلاحهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما كان يشتد حرصه عليه من طلب إيمانهم في معرض التنكيت عليهم ، والتبكيت لهم ، منكرا للطمع في إيمانهم فقال : { * أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون 75 } .

{ أفتطمعون } أيها المؤمنون بعد أن علمتم تفاصيل شؤون أسلافهم المؤيسة عنهم { أن يؤمنوا } أي هؤلاء اليهود الذين بين أظهركم وهم متماثلون في الأخلاق الذميمة ، لا يأتي من أخلافهم إلا مثل ما أتى من أسلافهم ، ( واللام في قوله ) : { لكم } لتضمينعنى الاستجابة . كما في قوله عز وجل : { فآمن له لوط } {[621]} أي في إيمانهم مستجيبين لكم . أو للتعليل أي في أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم { وقد كان فريق منهم } أي طائفة فيمن سلف منهم { يسمعون كلام الله } وهو ما يتلونه من التوراة { ثم يحرّفونه } قال ابن كثير : أي يتأولونه على غير تأويله . وقال ابن جرير : يعني بقوله : { يحرّفونه } يبدلون معناه وتأويله ويغيّرونه ، وأصله من انحراف الشيء عن جهته وهو ميله عنها إلى غيرها . فكذلك قوله : { يحرّفونه } أي يميلونه عن وجهه ، ومعناه الذي هو معناه ، إلى غيره . { من بعد ما عقلوه } أي فهموه على الجلية ، ومع هذا يخالفونه على بصيرة { وهم يعلمون } أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله .

قال ابن جرير : هذا إخبار عن إقدامهم على البهت ومناصبتهم العداوة له ولرسوله موسى عليه السلام . وأن بقاياهم في العصر المحمديّ على مثل ما كان عليه أوائلهم في العصر الموسويّ بغيا وحسدا . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : { فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه } {[622]} والظاهر أن المراد ، بالفريق منهم ، أحبارهم ، وإنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض على ما بينه الله تعالى ، من بعدُ ، في قوله تعالى : { واشتروا به ثمنا قليلا } {[623]} وقال : { يعرفونه كما يعرفون أبناءهم } {[624]} .

/ ولقائل أن يقول ، كيف يلزم من إقدام البعض على التحريف حصول اليأس من إيمان الباقين ، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين . وأجاب القفال عنه فقال : يحتمل أن يكون المعنى : كيف يؤمن هؤلاء ، وهم إنما يأخذون دينهم ، ويتعلمونه من قوم هم يتعمدون التحريف عنادا ، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وغيّروه عن وجهه ، والمقلدة لا يقبلون إلا ذلك ، ولا يلتفتون إلى أقوال أهل الحق ، وهو قولك للرجل كيف تفلح ، وأستاذك فلان ؟ أي وأنت عنه تأخذ ، ولا تأخذ عن غيره .

ونحوه قول الراغب : لما كان الإيمان هو العلم الحقيقيّ مع العمل بمقتضاه ، فمتى لم يتحر ذلك من حصل له بعض العلوم ، فحقيق أن لا يحصل لمن غَبِيَ عن كل العلوم . فذكر ذلك تبعيدا لإيمانهم لا يأسا للحكم بذلك ، إذ ليس كل ما لا يطمع فيه كان مأيوسا ( ثم قال الراغب ) وفي الآية تنبيه أن ليس المانع للإنسان من تحري الإيمان الجهل به فقط ، بل يكون عنادا وغلبة شهوة .

( تنبيه ) :

ما نقلناه عن ابن جرير وابن كثير في تفسير { ثم يحرّفونه } هو الأنسب باعتبار سوق الآية الكريمة ، ولا يتوهم من ذلك دفع تحريفهم اللفظيّ عن التوراة ، فإنه واقع بلا ريب ، فقد بدلوا بعضا منها وحرفوا لفظه ، وأوّلوا بعضا منها بغير المراد منه ، وكذا يقال في الإنجيل . ويشهد لذلك كلام أحبارهم ، فقد نقل العلامة الجليل الشيخ رحمة الله الهنديّ في كتابه ( إظهار الحق ) : أن أهل الكتاب سلفا وخلفا ، عادتهم جارية بأنهم يترجمون غالبا الأسماء في تراجمهم ، ويوردون بدلها معانيها ، وهذا خبط عظيم ومنشأ للفساد ، وأنهم يزيدون تارة شيئا بطريق التفسير في الكلام ، الذي هو كلام الله في زعمهم ، / ولا يشيرون إلى الامتياز ، وهذان الأمران بمنزلة الأمور العادية عندهم . ومن تأمل في تراجمهم المتداولة بألسنة مختلفة وجد شواهد تلك الأمور كثيرة . ثم ساق بعضا منها فانظره .

وفي ( ذخيرة الألباب ) ، لأحد علماء النصارى ، ما مثاله : إن بغضهم ذهب إلى أن روح القدس لم يق الكتبة عثرة الخطأ الطفيف ، ولا كفاهم زلة القَدَم حتى لم يَسْتَحِلْ أنهم خلطوا البشريات بالإلهيات . وفيه أيضا : إن بين النسخة العبرانية والسامرية واليونانية من الأسفار الخمسة خلافا عظيما في أمر التاريخ . فإذا تحريف الأسفار الخمسة أمر بيّن . وفيه أيضا في الفصل ( 31 ) : أن بعض علمائهم زعم أنه وجد في الترجمة اللاتينية العامية للعهدين العتيق والجديد نيفا وأربعة آلاف غلطة ، ورأى آخر فيها ما يزيد على الثمانية آلاف خطأ . انتهى . فثبت من شهادتهم وقوع التحريف اللفظيّ فيها . وهو المقصود .

وأما القول بتحريف الأسفار كلها أو جلها ، فهو إفراط . قال الحافظ ابن حجر في أواخر ( شرح الصحيح ) في باب قول الله تعالى : { بل هو قرآن مجيد } {[625]} : إن القول بأنها بدلت كلها مكابرة . والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل . من ذلك قوله تعالى :

{ الذين يتّبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل } {[626]} الآية . ومن ذلك / قصة رجم اليهوديين{[627]} وفيه وجود آية الرجم ويؤيده قوله تعالى : { قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين } {[628]} . وقد أسلفنا تتمة هذا البحث في مقدمة التفسير في الكلام على الإسرائيليات . فارجع إليه .


[621]:[29/ العنكبوت/ 26] ونصها: {* فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم 26}.
[622]:[5/ المائدة/ 13] ونصها: {فبما نقضهم ميثاقهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكّروا به ولا تزال تطّلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين 13}.
[623]:[3/ آل عمران/ 187] ونصها: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيّننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون 187}.
[624]:[2/ البقرة/ 146] ونصها: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون 146}. و[6/ الأنعام/ 20] ونصها: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون 20}.
[625]:[85/ البروج/ 21].
[626]:[7/ الأعراف/ 157] ونصها: {الذين يتّبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحلّ لهم الطّيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزّروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون 157}.
[627]:أخرجه البخاري في: 61- كتاب المناقب، 26 ـ باب قول الله تعالى: {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون}. عن عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟) فقالوا: نفضحهم ويُجْلَدون. فقال عبد الله بن سَلاَم: كذبتم. إن فيها الرجم. فأَتَوا بالتوراة فنشروها. فوضع أحدهم يده على آية الرجم. فقرأ ما قبلها وما بعدها. فقاله له عبد الله بن سلاَم: ارفع يدك. فرفع يده فإذا فيها آية الرجم. فقالوا: صَدَقَ، يا محمد، فيها آية الرجم. فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجما. قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة.
[628]:[3/ آل عمران/ 93] ونصها: {* كلّ الطعام كان حلاّ لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزّل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين 93}.