الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{۞أَفَتَطۡمَعُونَ أَن يُؤۡمِنُواْ لَكُمۡ وَقَدۡ كَانَ فَرِيقٞ مِّنۡهُمۡ يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (75)

قوله تعالى : { أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } . . ناصبٌ ومنصوبٌ ، وعلامةُ النصبِ حَذْفُ النونِ ، والأصلُ : في أَنْ ، فموضعُها نصبٌ أو جَرٌّ على ما عُرِفَ غيرَ مرةَ ، وعَدَّى " يؤمنوا " باللام لتضمُّنِه معنى أَنْ يُحْدِثوا الإِيمان لأجلِ دعوتِكم ، قاله الزمخشري وقد تقدَّم تحقيقُه .

قوله : { وَقَدْ كَانَ } الواو للحالِ . قالَ بعضُهم : " وعلامتُها أَنْ يَصْلُحَ موضعَها " إذ " والتقدير : أفتطمَعُون في إيمانِهم والحالُ أنهم كاذبون مُحَرِّفون لكلام الله تعالى . و " قد " مقربةٌ للماضي مِن الحال سَوَّغَتْ وقوعَه حالاً . و " يَسْمَعُون " خبراً كان ، و " منهم " في محلِّ رفع صفةً لفريقٍِ ، أي : فريقٌ كائنٌ منهم . وقال بعضُهم : { يَسْمَعُونَ } في محلِّ رفعٍ صفةً لفريق ، و " منهم " في محلِّ نصبٍ خبراً لكانَ ، وهذا ضعيفٌ . والفريق اسمُ جمعٍ لا واحدَ له مِن لفظِه كرهط وقوم ، وكان وما في حَيِّزها في محلِّ نصبٍ على ما تقدَّم . وقُرئ { كَلِمَ اللَّهِ } وهو اسمُ جنسٍ واحدهُ كلمة ، وفَرَّق النحاة بين الكلام والكَلِم ، بأنَّ الكلامَ شرطُه الإِفَادَةُ ، والكَلِمُ شَرْطُه التركيبُ من ثلاثٍ فصاعداً ، لأنه جَمْعٌ في المعنى ، وأقلُّ الجمعِ ثلاثةٌ ، فيكونَ بينهما عمومٌ وخُصوصٌ من وجهٍ ، وتحقيقُ هذا مذكورٌ في كتبِهم . وهل الكلامُ مصدرٌ أو اسمُ مصدر ؟ خلافٌ . والمادةُ تَدُلُّ على التأثير ، ومنه الكَلْمُ وهو الجرحُ ، والكلامُ يؤثِّر في المخاطب قال :

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . وجُرْحُ اللسانِ كجُرْحِ اليَدِ

ويُطْلَقُ الكلامُ لغةً على الخطِّ والإِشارةِ كقوله :

إذا كَلَّمَتْنِي بالعيونِ الفواتِرِ *** رَدَدْتُ عليها بالدموعِ البوادِرِ

وعلى النفساني ، قال الأخطل :

إنَّ الكلامَ لفي الفؤادِ وإنما *** جُعِلَ اللسانُ على الفؤادِ دَلِيلا

قيل : ولم يُوْجَدْ هذا البيتُ في ديوان الأخطل ، وأمَّا عند النحويين فلا يُطْلَقُ إلا على اللفظِ المركَّب المفيدِ بالوَضْع .

قوله : { مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } متعلِّقٌ ب { يُحَرِّفُونَهُ } . والتحريفُ : الإِمالة والتحويلُ ، و " ثم " للتراخي : إمَّا في الزمانِ أو الرتبةِ ، و " ما " يجوز أن تكونَ موصولةً اسميةً أي : ثم يُحَرِّفون الكلامَ من بعدِ المعنى الذي فَهِموه وعَرفوه . ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً والضميرُ في " عَلَقوه " يعودُ حينئذٍ على الكلامِ ، أي مِنْ بعدِ تَعَقُّلِهِم إياه . قوله : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } جملةٌ حاليةٌ ، وفي العاملِ فيها قولان ، أحدهما : { عَقَلُوهُ } ، ولكنْ يلزَمُ منه أن تكونَ حالاً مؤكدةً ، لأنَّ معناها قد فُهِمَ مِنْ قولِه " عَلَقُوه " والثاني : وهو الظاهرُ ، أنه يُحَرِّفونه ، أي يُحَرِّفونه حَالَ عِلْمِهِم بذلك .