معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

قوله تعالى : { ما جعل الله من بحيرة } أي : ما أنزل الله ، ولا أمر به .

قوله تعالى : { ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } ، قال ابن عباس في بيان هذه الأوضاع : البحيرة ، هي الناقة التي كانت إذا ولدت خمسة أبطن بحروا أذنها ، أي : شقوها ، وتركوا الحمل عليها ، ولم يركبوها ، ولم يجزوا وبرها ، ولم يمنعوها الماء والكلأ ، ثم نظروا إلى خامس ولدها فإن كان ذكراً نحروه وأكله الرجال والنساء ، وإن كان أنثى بحروا أذنها ، أي : شقوها ، وتركوها ، وحرم على النساء لبنها ، ومنافعها ، وكانت منافعها خاصة للرجال ، فإذا ماتت حلت للرجال والنساء . وقيل : كانت الناقة إذا تابعت اثنتي عشرة سنة إناثاً سيبت ، فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شق أذنها ، ثم خلي سبيلها مع أمها في الإبل ، فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ، ولم يشرب لبنها إلا ضيف ، كما فعل بأمها ، فهي البحيرة بنت السائبة . وقال أبو عبيدة : السائبة : البعير الذي يسيب ، وذلك أن الرجل من أهل الجاهلية كان إذا مرض وغاب له قريب نذر فقال : إن شفاني الله تعالى أو شفى مريضي ، أو عاد غائبي ، فناقتي هذه سائبة . ثم يسيبها فلا تحبس عن رعي ، ولا ماء ، ولا يركبها أحد ، فكانت بمنزلة البحيرة . وقال علقمة : هو العبد يسيب على أن لا ولاء عليه ، ولا عقل ، ولا ميراث . وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما الولاء لمن أعتق ) .

والسائبة فاعلة ، بمعنى المفعولة . وهي المسيبة ، كقوله تعالى : { ماء دافق } أي : مدفوق ، وعيشة راضية ، وأما الوصيلة : فمن الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت سبعة أبطن نظروا ، فإن كان السابع ذكرا ذبحوه ، فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كانت أنثى تركوها في الغنم ، وإن كان ذكراً وأنثى استحيوا الذكر من أجل الأنثى ، وقالوا : وصلت أخاها فلم يذبحوه . وكان لبن الأنثى حراماً على النساء ، فإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء جميعا .

وأما الحام : فهو الفحل إذا ركب ولده ، ويقال : إذا نتج من صلبه عشرة أبطن ، قالوا : حمي ظهره ، فلا يركب ، ولا يحمل عليه ، ولا يمنع من كلأ ، ولا ماء ، فإذا مات أكله الرجال والنساء .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس . والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء . قال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، وكان أول من سيب السوائب ) .

روى محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبي صالح السمان . عن أبي هريرة : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأكتم بن جون الخزاعي : ( يا أكتم ، رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار ، فما رأيت من رجل أشبه برجل منك به ، ولا به منك ، وذلك أنه أول من غير دين إسماعيل ، ونصب الأوثان ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ، فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه ، فقال أكتم : أيضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال : لا إنك مؤمن وهو كافر .

قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } ، في قولهم : الله أمرنا بها .

قوله تعالى : { وأكثرهم لا يعقلون } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

{ 103 - 104 } { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }

هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ، وحرموا ما أحله الله ، فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما ، على حسب اصطلاحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } وهي : ناقة يشقون أذنها ، ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة .

{ وَلَا سَائِبَةٍ } وهي : ناقة ، أو بقرة ، أو شاة ، إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه ، سيبوها فلا تركب ولا يحمل عليها ولا تؤكل ، وبعضهم ينذر شيئا من ماله يجعله سائبة .

{ وَلَا حَامٍ } أي : جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل ، إذا وصل إلى حالة معروفة بينهم .

فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ولا برهان . وإنما ذلك افتراء على الله ، وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم ، ولهذا قال : { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } فلا نقل فيها ولا عقل ، ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } رد وإنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية وهو أنهم إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقوها وخلوا سبيلها ، فلا تركب ولا تحلب ، وكان الرجل منهم يقول : إن شفيت فناقتي سائبة ويجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها ، وإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم وإن ولدت ذكرا فهو لألهتهم وإن ولدتهما قالوا وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر ، وإذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره ولم يمنعوه من ماء ولا مرعى وقالوا : قد حمي ظهره ، ومعنى ما جعل ما شرع ووضع ، ولذلك تعدى إلى مفعول واحد وهو البحيرة ومن مزيدة . { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } بتحريم ذلك ونسبته إلى الله سبحانه وتعالى . { وأكثرهم لا يعقلون } أي الحلال من الحرام والمبيح من المحرم ، أو الأمر من الناهي ولكنهم يقلدون كبارهم وفيه أن منهم من يعرف بطلان ذلك ولكن يمنعهم حب الرياسة وتقليد الآباء أن يعترفوا به .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

استئناف ابتدائي جاء فارقاً بين ما أحدثه أهل الجاهلية من نقائض الحنيفية وبين ما نوّه الله به ممّا كانوا عليه من شعائر الحج ، فإنّه لمّا بيّن أنّه جعل الكعبة قياماً للناس وجعل الهدْي والقلائد قياماً لهم ، بيّن هنا أنّ أموراً ما جعلها الله ولكن جعلها أهل الضلالة ليميز الخبيث من الطيّب ، فيكون كالبيان لآية { قل لا يستوي الخبيث والطيّب } [ المائدة : 100 ] ، فإنّ البَحيرة وما عطف عليها هنا تشبهُ الهدي في أنّها تحرّر منافعها وذواتها حيّة لأصنامهم كما تهدي الهدايا للكعبة مذكّاة ، فكانوا في الجاهلية يزعمون أنّ الله شرع لهم ذلك ويخلطون ذلك بالهدايا ، ولذلك قال الله تعالى : { قل هلمَّ شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا وقال في هذه الآية : { ولكنّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب } . فالتصدّي للتفرقة بين الهدي وبين البحيرة والسائبة ونحوهما ، كالتصدّي لبيان عدم التفرقة بين الطواف وبين السعي للصفا والمروة في قوله : { إنّ الصفا والمروة من شعائر الله } [ البقرة : 158 ] كما تقدّم هنالك . وقد قدّمنا ما رواه مجاهد عن ابن عباس : أنّ ناساً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة ونحوهما فنزلت هذه الآية .

وممّا يزيدك ثقة بما ذكرته أنّ الله افتتح هذه الآية بقوله : { ما جعل الله } لتكون مقابلاً لقوله في الآية الأخرى { جعل الله الكعبة } [ المائدة : 97 ] . ولولا ما توسّط بين الآيتين من الآي الكثيرة لكانت هذه الآية معطوفة على الأولى بحرف العطف إلاّ أنّ الفصل هنا كان أوقع ليكون به استقلال الكلام فيفيد مزيد اهتمام بما تضمّنه .

والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع ، لأنّ أصل ( جعل ) إذَا تعدّى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين ، ثم يستعار إلى التقدير والكتْب كما في قولهم : فرض عليه جعالة ، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } [ المائدة : 97 ] . فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنّها موجودة في الواقع . فنفي جعلها مُتعيّن لأن يكون المراد منه نفيَ الأمر والتشريع ، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضببِ على من جعله ، كما يقول الرجل لمن فعل شيئاً : ما أمرتك بهذا . فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام ، وذلك مثل قوله : { قل هلمّ شهداءكم الذين يشهدون أنّ الله حرّم هذا } [ الأنعام : 150 ] فإنّه كناية عن الغضب على من حرّموه ، وليس المراد أنّ لهم أن يجتنبوه .

وأدخلت ( مِن ) الزائدة بعد النفي للتنصيص على أنّ النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معيّنة ، فقد ساوى أن يقال : لاَ بحيرة ولاَ سائبةَ مع قضاء حقّ المقام من بيان أنّ هذا ليس من جعل الله وأنّه لا يَرضى به فهو حرام .

والبَحيرة بفتح الباء الموحّدة وكسر الحاء المهملة فَعِيلة بمعنى مفعولة ، أي مبحورة ، والبَحْر الشقّ . يقال : بحرَشقّ . وفي حديث حفر زمزم أنّ عبد المطلب بَحَرَها بَحْراً ، أي شقّها ووسّعها . فالبحيرة هي الناقة ، كانوا يشقّون أذنها بنصفين طولاً علامة على تخليتها ، أي أنّها لا تركب ولا تنحر ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى ولا يَجزرونها ويكون لبنها لطواغيتهم ، أي أصنامهم ، ولا يشرب لبنها إلاّ ضيف ، والظاهر أنّه يشربه إذا كانت ضيافة لزيارة الصنم أو إضافة سادنه ، فكلّ حيّ من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم . وقد كانت للقبائل أصنام تدين كلّ قبيلة لصنم أو أكثر .

وإنّما يجعلونها بحيرة إذا نُتجت{[226]} عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة . وقيل : إذا نُتجت خمسة أبطن وكان الخامس ذكراً . وإذا ماتت حتف أنفها حلّ أكل لحمها للرجال وحرم على النساء .

والسائبة : البعير أو الناقة يجعل نَذراً عن شفاء من مرض أو قدوم من سفر ، فيقول : أجعله لله سائبة . فالتاء فيه للمبالغة في الوصف كتاء نسّابة ، ولذلك يقال : عبد سائبة ، وهو اسم فاعل بمعنى الانطلاق والإهمال ، وقيل : فاعل بمعنى مفعول ، أي مسيّب .

وحكم السائبة كالبحيرة في تحريم الانتفاع ، فيكون ذلك كالعتق وكانوا يدفعونها إلى السدنة ليُطعموا من ألبانها أبناء السبيل . وكانت علامتها أن تقطع قطعة من جلدة فَقار الظهر ، فيقال لها : صَريم وجمعه صُرُم ، وإذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلّهنّ إناث متتابعة سيّبوها أيضاً فهي سائبة ، وما تلده السائبة يكون بحيرة في قول بعضهم . والظاهر أنّه يكون مثلها سائبة .

والوصيلة من الغنم هي الشاة تلد أنثى بعد أنثى ، فتسمّى الأمّ وصيلة لأنّها وصلت أنثى بأنثى ، كذا فسّرها مالك في رواية ابن وهب عنه ، فعلى هذه الرواية تكون الوصيلة هي المتقرّب بها ، ويكون تسليط نفي الجعل عليها ظاهراً . وقال الجمهور : الوصيلة أن تلد الشاة خمسة أبطن أو سبعة ( على اختلاف مصطَلَح القبائل ) فالأخير إذا كان ذكراً ذبحوه لبيوت الطواغيت وإن كانت أنثى استحيوها ، أي للطواغيت ، وإن أتأمت استحيوهما جميعاً وقالوا : وَصَلت الأنثى أخاها فمنعته من الذبح ، فعلى هذا التأويل فالوصيلة حالة من حالات نسل الغنم ، وهي التي أبطلها الله تعالى ، ولم يتعرّضوا لبقية أحوال الشاة . والأظهر أنّ الوصيلة اسم للشاة التي وصلت سبعة أبطن إناثاً ، جمعاً بين تفسير مالك وتفسير غيره ، فالشاة تسيّب للطواغيت ، وما ذكروه من ذبح ولدها أو ابنتها هو من فروع استحقاق تسييبها لتكون الآية شاملة لأحوالها كلّها . وعن ابن إسحاق : الوصيلة الشاة تتئم في خمسة أبطن عشرة إناث فما ولدت بعد ذلك فهو للذكور منهم دون النساء إلاّ أن يموت شيء منها فيشترك في أكله الرجال والنساء .

وفي « صحيح البخاري » عن سعيد بن المسيّب : أنّ الوصيلة من الإبل إذا بكّرت الناقة في أول إنتاج الإبل بأنثى ثم تثنّي بعد بأنثى في آخر العام فكانوا يجعلونها لطواغيتهم .

وهذا قاله سعيد من نفسه ولم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في سياق البخاري إيهام اغترّ به بعض الشارحين ونبّه عليه في « فتح الباري » . وعلى الوجوه كلّها فالوصيلة فعيلة بمعنى فاعلة .

والحامي هو فحل الإبل إذا نُتجت من صلبه عشرة أبطن فيمنع من أن يركب أو يحمل عليه ولا يمنع من مرعًى ولا ماء . ويقولون : إنّه حمى ظهره ، أي كان سبباً في حمايته ، فهو حام . قال ابن وهب عن مالك ، كانوا يجعلون عليه ريش الطواويس ويسيّبونه ، فالظاهر أنّه يكون بمنزلة السائبة لا يؤكل حتى يموت وينتفع بوبره للأصنام .

وقوله : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } الاستدراك لرفع ما يتوهّمه المشركون من اعتقاد أنّها من شرع الله لتقادم العمل بها منذ قرون . والمراد بالذين كفروا هنا جميع المشركين فإنّهم يكذّبون في نسبة هذه الأشياء إلى شعائر الله لأنّهم جميعاً يخبرون بما هو مخالف لما في الواقع . والكذب هو الخبر المخالف للواقع .

والكفّار فريقان خاصّة وعامّة : فأمّا الخاصّة فهم الذين ابتدعوا هذه الضلالات لمقاصد مختلفة ونسبوها إلى الله ، وأشهر هؤلاء وأكذبهم هو عَمْرُو بنُ عامر بن لُحَيّ بضم اللام وفتح الحاء المهملة وياء مشدّدة الخزاعي ، ففي الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت عمرو بنَ عامر بن لُحَي الخزاعي يجُرّ قُصْبَه بضم القاف وسكون الصاد المهملة أي إمعاءه في النار ، وكان أولَ من سيّب السوائب . ومنهم جنادة بن عوف{[227]} . وعن مالك أنّ منهم رجلاً من بني مُدْلِج هو أول من بحَّر البَحيرة وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : رأيته مع عَمرو في النار . رواه ابن العربي . وفي رواية أنّ عَمرو بن لحي أول من بحّر البحيرة وسيّب السائبة . وأصحّ الروايات وأشهرها عن رسول الله : أنّ عمرو بن لحي أول من سيّب السوائب ولم يذكر البحيرة .

وأمّا العامّة فهم الذين اتّبعوا هؤلاء المضلّين عن غير بصيرة ، وهم الذين أريدوا بقول : { وأكثرهم لا يعقلون } . فلمّا وصف الأكثر بعدم الفهم تعيّن أنّ الأقلّ هم الذين دبّروا هذه الضلالات وزيّنوها للناس .

والافتراء : الكذب . وتقدّم عند قوله تعالى : { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } في سورة آل عمران ( 94 ) .

وفي تسمية ما فعله الكفّار من هذه الأشياء افتراء وكذباً ونفي أن يكون الله أمر به ما يدلّ على أنّ تلك الأحداث لا تمتّ إلى مرضاة الله تعالى بسبب من جهتين : إحداهما : أنّها تنتسب إلى الآلهة والأصنام ، وذلك إشراك وكفر عظيم . الثانية : أنّ ما يجعل منها لله تعالى مثل السائبة هو عمل ضرّه أكثر من نفعه ، لأنّ في تسييب الحيوان إضرار به إذ ربما لا يجد مرعى ولا مأوى ، وربما عدت عليه السباع ، وفيه تعطيل منفعته حتى يموت حتف أنفه . وما يحصل من درّ بعضها للضيف وابن السبيل إنّما هو منفعة ضئيلة في جانب المفاسد الحافّة به .


[226]:- نتجت مبني للمفعول وهو يتعدى إلأى مفعولين، فأولهما جعل نائب فاعل وثانيهما هو المنصوب.
[227]:- هو جنادة بن أمية بن عوف من بني ماك بن كنانة وهو نسأة الشهور. وجنادة هذا أدركه الإسلام وهو القائم بالنسي.