الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

قوله : { ما جعل الله من بحيرة [ ولا سائبة } الآية [ 105 ] .

أي : ما حرم الله ذلك{[18267]} . وقيل : المعنى : ما بحر الله بحيرة ]{[18268]} ، ولا وصل وصيلة ولا / سيب{[18269]} سائبة ، ولا حمى{[18270]} حاميا ، ولكن الكافرين اخترقوا ذلك{[18271]} .

وقد تعلق قوم من الجهلة{[18272]} القائلين بخلق{[18273]} القرآن بقوله تعالى{[18274]} : { إن جعلناه قرآنا }{[18275]} أنه بمعنى فعلناه ، أي : خلقناه{[18276]} ، وهذه الآية تظهر جهلهم ، وهو{[18277]} قوله : { ما جعل الله من بحيرة } ، فإن كان ( جعلنا ) بمعنى ( خلقنا ) قد{[18278]} نفى عن نفسه هنا الجعل ، فمن خلقها ؟ ( أثَمَّ ){[18279]} خالق غير الله ؟ ويدل{[18280]} على فساد قولهم : قوله تعالى{[18281]} : { ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين }{[18282]} ، فإن كان ( جعل ) بمعنى ( خلق ) فلم يكن القوم إذا موجودين{[18283]} . وقد أخبر عنهم أنهم استضعفوا في الأرض ، وقال : { إني جاعلك للناس إماما }{[18284]} ، فيجب على قولهم أن يكون إبراهيم غير مخلوق في ذلك الوقت وقال : { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم }{[18285]} فواجب – على قولهم – أن يكون قد ميز{[18286]} الخبيث من الطيب وهو غير موجود ، وقال : { ويجعلون لله البنات }{[18287]} حكاية عن الكفار ، ( وتراهم ){[18288]} أيها الجهلة القدرية{[18289]} خلقوهم ( هم ){[18290]} ، إنما سموهم ، ويلزمهم أن يكون القرآن خلق مرتين لقوله : { الذين جعلوا القرآن عضين }{[18291]} ، وقوله : { جعلناه{[18292]} قرآنا عربيا }{[18293]} ، وهذا أكثر من أن يحصى . والجعل يكون بمعنى التعبير والوصف والتسمية ، وقد يكون بمعنى الخلق بدلالة تدل عليه ، نحو قوله : { وجعل منها زوجها }{[18294]} أي : وخلق ، لكن إذا كانت ( جعل ) بمعنى ( خلق ) لم تتعد{[18295]} إلا على مفعول واحد{[18296]} .

( و ){[18297]} روى زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قد عرفت أول من بحر البحيرة ، ( و ){[18298]} هو رجل من بني مُدْلج{[18299]} ، كانت له ناقتان ، فجدع{[18300]} آذانهما ، وحرم ألبانهما ( وظهورهما وقال : هاتان لله : ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما ){[18301]} وركب ظهورهما ، قال : فلقد رَأيتُه في النار ، يُؤذي أهل النار ( ريحُ قُصبِه ){[18302]} .

والبحيرة : ( فَعيلة ) بمعنى ( مفعولة ) ، وهي الناقة المشقوقة الأذن ، يقال{[18303]} : بحرت{[18304]} أذن{[18305]} الناقة{[18306]} .

والسائبة : ( فاعلة ) بمعنى ( مَفعِلة ){[18307]} ، كما قيل : راضية بمعنى مَرْضية ، وهي المخلاَّة{[18308]} من المواشي ، كانت الجاهلية تفعله ببعض المواشي ، فيُحرم الانتفاع به{[18309]} على نفسه{[18310]} .

وأما الوصلية : فإن الأنثى من نعمهم كانت – في الجاهلية – إذا أتت بذكر وأنثى ، قيل{[18311]} : ( قد وصلت أخاها ) ، أي : منعته من الذبح ، فسموها وصيلة{[18312]} .

وأما الحامي : فهو الفحل من النعم{[18313]} يحمى{[18314]} ظهره من الركوب والانتفاع{[18315]} بسبب{[18316]} تتابع أولاد [ تَحدُث ]{[18317]} في فِحْلَتِه{[18318]} .

وقال قتادة : كانت الناقة إذا{[18319]} نتجت خمسة أبطن ، نظر إلى البطن الخامس ، فإن كان ذكرا{[18320]} أكله الرجال دون النساء ، وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء ، وإن كانت{[18321]} أنثى بحروا{[18322]} أذنها – أي : شقوها – وتركت ، فلا يشرب لها لبن{[18323]} ولا [ تركب ]{[18324]} ، وكان يسيبون ما شاءوا من أموالهم ، فلا يُمنع من ماء ولا كلأ ، ولا ينتفع به . وكانت الشاة إذا نتجت سبعة أبطن ، نظروا{[18325]} إلى البطن السابع ، فإن كان ذكرا ذبح ، فكان للرجال دون النساء ، وإن كانت{[18326]} ميتة أكله الرجال والنساء ، وإن كانت{[18327]} أنثى تركت ، وإن ( كانت ذكرا ){[18328]} وأنثى ، قيل : وصلت أخاها فمنعته من الذبح . وكان الحامي هو الفحل إذا ربك من ولده عشرة ، / قيل : حمى ظهره ، فلا يركب ولا ينتفع به ويطلق{[18329]} .

ويقال : إن الناقة كانت إذا ( تتابعت{[18330]} باثنتي عشرة أنثى ){[18331]} ليس فيهن ذكر ، سيبت{[18332]} فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها ، فما نتجت – بعد ذلك – من أنثى شقَّ أذنها{[18333]} وخلاها{[18334]} مع أمها في الإبل ، فلم يركب ظهرها ، كما ( فعل ){[18335]} بأمها ، فهي البحيرة ابنة{[18336]} السائبة{[18337]} .

والوصيلة : هي الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر ، جعلت وصيلة ، وقالوا : وصلت ، فما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم{[18338]} ، إلا أن يموت منها{[18339]} شيء ، فيشتركون{[18340]} في أكله : الذكور والإناث منهم{[18341]} .

والحامي : هو الفحل إذا نتج ( له ){[18342]} عشر إناث متتابعات ، ليس بينهن{[18343]} ذكر ، حمى ظهره فلم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها ولا ينتفع به لغير ذلك . فنفى{[18344]} الله جل ذكره{[18345]} عن نفسه أن يكون سمى شيئا من ذلك أو صيّره{[18346]} كذلك{[18347]} ، فقال : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } أي : يخترقونه{[18348]} .

و{ الذين كفروا } هو اليهود ، والذين { لا يعقلون }{[18349]} : أهل الأوثان{[18350]} .

وقيل : المراد بذلك أهل الجاهلية الذين سنوا ذلك ، فهم الكفار ، والذين لا يعقلون : أتباعهم ، أي : لا يعقلون أنه إنما سن لهم ذلك من تقدمهم من غير أمر ( من ){[18351]} الله فيه ، وأنه باطل كذب ، وذِكْرُ أهل الكتاب – في هذا – لا معنى له ، إذ ليس لهم في هذا صنع ولا سنة ، وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب ، فهم الذين عنوا بذلك{[18352]} .

وقيل : إنهم لا يعقلون{[18353]} ( أن ){[18354]} الشيطان حرمه عليهم وسنَّه{[18355]} لهم{[18356]} .

وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار{[18357]} أن رسول الله قال{[18358]} : " قد عرفت أول من سيب السيب ، ونصب النصب وغير عهد إبراهيم : عمرو{[18359]} بن لحي{[18360]} ، لقد رأيته وإنه ليجر{[18361]} قصبه في النار يؤذي أهل النار بريحه{[18362]} " . القُصْبُ : الأمعاء{[18363]} . روى مالك أيضا عن زيد بن أسلم عن عطاء{[18364]} أن النبي قال : " قد عرفت أول من بحر البحائر : رجل من بني مدلج{[18365]} ، كانت له ناقتان ، فجدع{[18366]} [ آذانهما ]{[18367]} ، وحرَّم ألبانهما وظهورهما ، ثم احتاج فركبهما وشرب ألبانهما ، فلقد رأيتُهما وإياه في النار ، وإنهما لتخبطانه{[18368]} بأخفافهما ، وتعضانه{[18369]} بأفواههما ، وفي ذلك اختلاف كثير والمعنى متقارب{[18370]} .


[18267]:انظر: مجاز أبي عبيدة 1/177.
[18268]:ساقطة من ب.
[18269]:ب: سبب.
[18270]:ب: حم.
[18271]:مكررة في ب. وانظر: تفسير الطبري 11/116.
[18272]:أي فرقة المعتزلة.
[18273]:ب: تخلف من غير نقطة الفاء.
[18274]:ساقطة من ج د.
[18275]:الزخرف: 2.
[18276]:وفي شرح الفقه الأكبر 42: (والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه متكلما، ذهبوا إلى أنه متكلم بمعنى موجد الأصوات والحروف في محالها وأشكال الكتابة في اللوح المحفوظ وإن لم يقرأ، على اختلاف بينهم). قال في تحفة المريد 72: (وهو مردود بأن الكلام النفسي ثابت لغة... وكلامه تعالى صفة واحدة لا تعدد فيها، لكن لها أقسام اعتبارية) ثم ذكرها.
[18277]:ج د: هي.
[18278]:ب ج د: فقد.
[18279]:ب: ثم.
[18280]:ب: يدل.
[18281]:ساقطة من ب.
[18282]:القصص: 4.
[18283]:د: موجدين.
[18284]:البقرة: 123.
[18285]:الأنفال: 37.
[18286]:د: مين.
[18287]:النحل: 57.
[18288]:ب ج د: اتراهم.
[18289]:ب ج د: والقدرية.
[18290]:ساقطة من ب ج د.
[18291]:الحجر: 91.
[18292]:ج د: جعله.
[18293]:الزخرف: 2.
[18294]:الأعراف: 189.
[18295]:ب ج د: يتعد.
[18296]:انظر: الحديث عن القرآن كلام الله ورد افتراء المعتزلة: في شرح الفقه الأكبر 40 وما بعدها، وفي الإبانة عن أصول الديانة 87 – 104 التي اشتملت مقدمته – 99 و ما بعدها ضمن مبحث: (حقيقة كل من وقفتي: السلف والمعتزلة) – على توجيه الآيات الواردة بلفظ (جعل). وانظر: كذلك تحفة المريد 70 وما بعدها.
[18297]:ساقطة من ب ج د.
[18298]:ساقطة من ب ج د.
[18299]:د: مدبح.
[18300]:ب: بجدع.
[18301]:ساقطة من ج د.
[18302]:ب: وريح قصبة. وانظر: تفسير الطبري 11/119، وهو عن أبي هريرة في تفسير مجاهد باختلاف يسير 317. والقصب والقُصب: المعى، والجمع: أسفل البطن من الأمعاء (انظر: اللسان: قصب.
[18303]:ب: فقال.
[18304]:ب: بحرة.
[18305]:ب ج د: اذان.
[18306]:انظر: تفسير الطبري 11/121، وانظر: مجاز أبي عبيدة 1/179، و180، ومعاني الزجاج 2/213.
[18307]:ج د: مفعولة.
[18308]:ب: النحلاة. ج د: المخلات.
[18309]:ب ج د: بها.
[18310]:انظر: تفسير الطبري 11/123، 124، وانظر: مجاز أبي عبيدة 1/178، وما بعدها، ومعاني الزجاج 2/213.
[18311]:ب: قيل.
[18312]:انظر: تفسير الطبري 11/124، ومجاز أبي عبيدة 1/178 و180، ومعاني الزجاج 2/213.
[18313]:ب ج د: الغنم.
[18314]:د: فحمى.
[18315]:ب ج د: الانتفاع به.
[18316]:د: سبب.
[18317]:أ: فحدث.
[18318]:انظر: تفسير الطبري 11/124، ومعاني الفراء 1/322، ومجاز أبي عبيدة 1/178 و179 و181، ومعاني الزجاج 2/213.
[18319]:مكررة في ب.
[18320]:د: ذكر.
[18321]:ج د: كان.
[18322]:ب: يحروا.
[18323]:ب ج د: لبن ولا تجز.
[18324]:أ: يركب.
[18325]:ج د: نظر.
[18326]:ب ج د: كان.
[18327]:ج د: كان.
[18328]:ج د: كان ذكر.
[18329]:انظر: تفسير الطبري 11/129 و130.
[18330]:ب: تنابعت.
[18331]:في تفسير الطبري 11/125: تابعت بين عشر إناث.
[18332]:ب: سببه.
[18333]:ب: أذنيها.
[18334]:ب: خلا نما.
[18335]:ساقطة من ب.
[18336]:ب د: ابنت.
[18337]:ب: السابعة.
[18338]:ج د: الإناث.
[18339]:ب: عنها.
[18340]:ب: فيشركون.
[18341]:ب ج د: منه.
[18342]:ساقطة من ج د.
[18343]:ب: هيهن فيهن. ج: فيهن.
[18344]:ب: فنهى.
[18345]:أ: ذكره ذلك.
[18346]:ب: صيده.
[18347]:انظر: تفسير الطبري 11/125.
[18348]:ب: يحترقونه. وانظر: تفسير الطبري 11/135 و136، ومجاز أبي عبيدة 1/181.
[18349]:هنا علامة إلحاق في أ. والكلام المستدرك في الهامش هو المذكور بعد لفظة (لا يعقلون) – الآتية قريبا في السياق – إلى قوله: (لا معنى له).
[18350]:هو قول محمد بن أبي موسى في تفسير الطبري 11/135.
[18351]:ساقطة من ب ج د.
[18352]:انظر: تفسير الطبري 11/135 و136.
[18353]:أ: يعقلون أي: لا يعقلون.
[18354]:ساقطة من ج.
[18355]:ب: ستة، د: سنة.
[18356]:هو قول قتادة في تفسير الطبري 11/136.
[18357]:د: يسر.
[18358]:ج: أنه قال.
[18359]:د: عمر.
[18360]:ب: يحى. ج: يحيى. د: يحيا. وهو أول من جعل البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ونصب الأوثان حول الكعبة وغيّر الحنيفية دين نبي الله إبراهيم. وهو أبو خزاعة عمرو بن عامر في الأوائل 48. وانظر: أخبار مكة 1/117، وتفسير الطبري 11/116.
[18361]:في موضعها بياض في (ب).
[18362]:الظاهر من الطمس في (أ) أنها كما أثبت.
[18363]:انظر: اللسان: قصب.
[18364]:ب ج د: عطاء بن يسار.
[18365]:ب د: مدبح.
[18366]:ب ج د: فحرج.
[18367]:أ: أذانهما.
[18368]:ب ج د: ليخبطاه.
[18369]:ب: بعضانه. ج د: يعضانه.
[18370]:ست روايات بشأن هذا الحديث متقاربة المعنى في تفسير الطبري 11/166 وما بعدها.