قوله : { ما جعل الله من بحيرة [ ولا سائبة } الآية [ 105 ] .
أي : ما حرم الله ذلك{[18267]} . وقيل : المعنى : ما بحر الله بحيرة ]{[18268]} ، ولا وصل وصيلة ولا / سيب{[18269]} سائبة ، ولا حمى{[18270]} حاميا ، ولكن الكافرين اخترقوا ذلك{[18271]} .
وقد تعلق قوم من الجهلة{[18272]} القائلين بخلق{[18273]} القرآن بقوله تعالى{[18274]} : { إن جعلناه قرآنا }{[18275]} أنه بمعنى فعلناه ، أي : خلقناه{[18276]} ، وهذه الآية تظهر جهلهم ، وهو{[18277]} قوله : { ما جعل الله من بحيرة } ، فإن كان ( جعلنا ) بمعنى ( خلقنا ) قد{[18278]} نفى عن نفسه هنا الجعل ، فمن خلقها ؟ ( أثَمَّ ){[18279]} خالق غير الله ؟ ويدل{[18280]} على فساد قولهم : قوله تعالى{[18281]} : { ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين }{[18282]} ، فإن كان ( جعل ) بمعنى ( خلق ) فلم يكن القوم إذا موجودين{[18283]} . وقد أخبر عنهم أنهم استضعفوا في الأرض ، وقال : { إني جاعلك للناس إماما }{[18284]} ، فيجب على قولهم أن يكون إبراهيم غير مخلوق في ذلك الوقت وقال : { ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم }{[18285]} فواجب – على قولهم – أن يكون قد ميز{[18286]} الخبيث من الطيب وهو غير موجود ، وقال : { ويجعلون لله البنات }{[18287]} حكاية عن الكفار ، ( وتراهم ){[18288]} أيها الجهلة القدرية{[18289]} خلقوهم ( هم ){[18290]} ، إنما سموهم ، ويلزمهم أن يكون القرآن خلق مرتين لقوله : { الذين جعلوا القرآن عضين }{[18291]} ، وقوله : { جعلناه{[18292]} قرآنا عربيا }{[18293]} ، وهذا أكثر من أن يحصى . والجعل يكون بمعنى التعبير والوصف والتسمية ، وقد يكون بمعنى الخلق بدلالة تدل عليه ، نحو قوله : { وجعل منها زوجها }{[18294]} أي : وخلق ، لكن إذا كانت ( جعل ) بمعنى ( خلق ) لم تتعد{[18295]} إلا على مفعول واحد{[18296]} .
( و ){[18297]} روى زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " قد عرفت أول من بحر البحيرة ، ( و ){[18298]} هو رجل من بني مُدْلج{[18299]} ، كانت له ناقتان ، فجدع{[18300]} آذانهما ، وحرم ألبانهما ( وظهورهما وقال : هاتان لله : ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما ){[18301]} وركب ظهورهما ، قال : فلقد رَأيتُه في النار ، يُؤذي أهل النار ( ريحُ قُصبِه ){[18302]} .
والبحيرة : ( فَعيلة ) بمعنى ( مفعولة ) ، وهي الناقة المشقوقة الأذن ، يقال{[18303]} : بحرت{[18304]} أذن{[18305]} الناقة{[18306]} .
والسائبة : ( فاعلة ) بمعنى ( مَفعِلة ){[18307]} ، كما قيل : راضية بمعنى مَرْضية ، وهي المخلاَّة{[18308]} من المواشي ، كانت الجاهلية تفعله ببعض المواشي ، فيُحرم الانتفاع به{[18309]} على نفسه{[18310]} .
وأما الوصلية : فإن الأنثى من نعمهم كانت – في الجاهلية – إذا أتت بذكر وأنثى ، قيل{[18311]} : ( قد وصلت أخاها ) ، أي : منعته من الذبح ، فسموها وصيلة{[18312]} .
وأما الحامي : فهو الفحل من النعم{[18313]} يحمى{[18314]} ظهره من الركوب والانتفاع{[18315]} بسبب{[18316]} تتابع أولاد [ تَحدُث ]{[18317]} في فِحْلَتِه{[18318]} .
وقال قتادة : كانت الناقة إذا{[18319]} نتجت خمسة أبطن ، نظر إلى البطن الخامس ، فإن كان ذكرا{[18320]} أكله الرجال دون النساء ، وإن كان ميتة اشترك فيه الرجال والنساء ، وإن كانت{[18321]} أنثى بحروا{[18322]} أذنها – أي : شقوها – وتركت ، فلا يشرب لها لبن{[18323]} ولا [ تركب ]{[18324]} ، وكان يسيبون ما شاءوا من أموالهم ، فلا يُمنع من ماء ولا كلأ ، ولا ينتفع به . وكانت الشاة إذا نتجت سبعة أبطن ، نظروا{[18325]} إلى البطن السابع ، فإن كان ذكرا ذبح ، فكان للرجال دون النساء ، وإن كانت{[18326]} ميتة أكله الرجال والنساء ، وإن كانت{[18327]} أنثى تركت ، وإن ( كانت ذكرا ){[18328]} وأنثى ، قيل : وصلت أخاها فمنعته من الذبح . وكان الحامي هو الفحل إذا ربك من ولده عشرة ، / قيل : حمى ظهره ، فلا يركب ولا ينتفع به ويطلق{[18329]} .
ويقال : إن الناقة كانت إذا ( تتابعت{[18330]} باثنتي عشرة أنثى ){[18331]} ليس فيهن ذكر ، سيبت{[18332]} فلم يركب ظهرها ، ولم يجز وبرها ولم يشرب لبنها ، فما نتجت – بعد ذلك – من أنثى شقَّ أذنها{[18333]} وخلاها{[18334]} مع أمها في الإبل ، فلم يركب ظهرها ، كما ( فعل ){[18335]} بأمها ، فهي البحيرة ابنة{[18336]} السائبة{[18337]} .
والوصيلة : هي الشاة إذا نتجت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس فيهن ذكر ، جعلت وصيلة ، وقالوا : وصلت ، فما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون إناثهم{[18338]} ، إلا أن يموت منها{[18339]} شيء ، فيشتركون{[18340]} في أكله : الذكور والإناث منهم{[18341]} .
والحامي : هو الفحل إذا نتج ( له ){[18342]} عشر إناث متتابعات ، ليس بينهن{[18343]} ذكر ، حمى ظهره فلم يركب ولم يجز وبره ويخلى في إبله يضرب فيها ولا ينتفع به لغير ذلك . فنفى{[18344]} الله جل ذكره{[18345]} عن نفسه أن يكون سمى شيئا من ذلك أو صيّره{[18346]} كذلك{[18347]} ، فقال : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } أي : يخترقونه{[18348]} .
و{ الذين كفروا } هو اليهود ، والذين { لا يعقلون }{[18349]} : أهل الأوثان{[18350]} .
وقيل : المراد بذلك أهل الجاهلية الذين سنوا ذلك ، فهم الكفار ، والذين لا يعقلون : أتباعهم ، أي : لا يعقلون أنه إنما سن لهم ذلك من تقدمهم من غير أمر ( من ){[18351]} الله فيه ، وأنه باطل كذب ، وذِكْرُ أهل الكتاب – في هذا – لا معنى له ، إذ ليس لهم في هذا صنع ولا سنة ، وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب ، فهم الذين عنوا بذلك{[18352]} .
وقيل : إنهم لا يعقلون{[18353]} ( أن ){[18354]} الشيطان حرمه عليهم وسنَّه{[18355]} لهم{[18356]} .
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار{[18357]} أن رسول الله قال{[18358]} : " قد عرفت أول من سيب السيب ، ونصب النصب وغير عهد إبراهيم : عمرو{[18359]} بن لحي{[18360]} ، لقد رأيته وإنه ليجر{[18361]} قصبه في النار يؤذي أهل النار بريحه{[18362]} " . القُصْبُ : الأمعاء{[18363]} . روى مالك أيضا عن زيد بن أسلم عن عطاء{[18364]} أن النبي قال : " قد عرفت أول من بحر البحائر : رجل من بني مدلج{[18365]} ، كانت له ناقتان ، فجدع{[18366]} [ آذانهما ]{[18367]} ، وحرَّم ألبانهما وظهورهما ، ثم احتاج فركبهما وشرب ألبانهما ، فلقد رأيتُهما وإياه في النار ، وإنهما لتخبطانه{[18368]} بأخفافهما ، وتعضانه{[18369]} بأفواههما ، وفي ذلك اختلاف كثير والمعنى متقارب{[18370]} .