البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

{ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } مناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه منع من التزام أمور ليست مشروعة من الله تعالى ، ولما سأل قوم عن هذه الأحكام التي كانت في الجاهلية هل تلحق بأحكام الكعبة بين تعالى أنه لم يشرع شيئاً منها ، أو لما ذكر المحللات والمحرمات في الشرع عاد إلى الكلام في المحللات والمحرمات من غير شرع ، وفي حديث روي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « أن أول من غير دين إسماعيل عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف نصب الأوثان وسبب السائبة وبحر البحيرة وحمى الحامي » ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار ، وروي أنه كان ملك مكة ، وروى زيد بن أسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « قد عرفت أول من بحر البحيرة هو رجل من مدلج كانت له ناقتان فجدع ذانهما وحرم ألبانهما وركوب ظهورهما قال : فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه » .

قال الزمخشري يعني { ما جعل الله } ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك ، وقال ابن عطية و { جعل } في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق الله لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني ، وإنما هي بمعنى ما سن ولا شرع ، ولم يذكر النحويون في معاني جعل شرع ، بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق وبمعنى ألقى وبمعنى صير ، وبمعنى الأخذ في الفعل فتكون من أفعال المقاربة .

وذكر بعضهم بمعنى سمى وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها إلا أنه قليل والحمل على ما سمع أولى من إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفاً ، أي ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حامياً مشروعة بل هي من شرع غير الله ،

{ والأنعام خلقها لكم } خلقها الله تعالى رفقاً لعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة وأهل الجاهلية قطعوا طريق الانتفاع بها وإذهاب نعمة الله بها ، قال ابن عطيّة وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تجوز الأحباس والأوقاف وقاسوا على البحيرة والسائبة والفرق بيّن ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال هذه تكون حبساً لا تجتنى ثمرتها ولا تزرع أرضها ولا ينتفع منها بنفع لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة ، وأما الحبس المتعين طريقة واستمرار الانتفاع به فليس من هذا ، وحسبك بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب في مال له : « اجعله حبساً لا يباع أصله » وحبس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم انتهى .

{ ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } قال الزمخشري بتحريم ما حرموا .

{ وأكثرهم لا يعقلون } فلا ينسبوا التحريم حتى يفتروا ولكنهم يقلدون في تحريمها كبارهم انتهى .

نص الشعبي وغيره أن المفترين هم المبتدعون وأن الذين لا يعقلون هم الأتباع ، وقال ابن عباس { الذين كفروا } يريد عمرو بن لحي وأصحابه ، وقيل في { لا يعقلون } أي الحلال من الحرام ، وقال قتادة : { لا يعقلون } أن هذا التحريم من الشيطان لا من الله ، وقال محمد بن موسى : { الذين كفروا } هنا هم أهل الكتاب والذين { لا يعقلون } هم أهل الأوثان ، قال ابن عطية وهذا تفسير من انتزاع آخر الآية عما تقدمها وارتبط بها من المعنى وعما أخبر أيضاً من قوله { وإذا قيل لهم } انتهى .

وقال مكي ذكر أهل الكتاب هنا لا معنى له إذ ليس في هذا صنع ولا شبه وإنما ذكر ذلك عن مشركي العرب فهم الذين عنوا بذلك .