الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

قوله سبحانه : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَائِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ }[ المائدة :103 ] .

أي : لم يجعلْ سبحانه شيئاً مِنْ ذلك ، ولا سَنَّهُ لعباده ، المعنى : ولكن الكُفَّار فعلوا ذلك ، كعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ ، وغيره مِنْ رؤسائهم ، { يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب } بقولهم : هذه قربةٌ إلى اللَّهِ ، { وَأَكْثَرُهُمْ } ، يعني : الأتْبَاعَ { لاَ يَعْقِلُونَ } ، بل يتَّبِعون هذه الأمور تقليداً ، و{ جَعَلَ } في هذه الآية : لا يتَّجه أنْ تكون بمعنى «خَلَقَ » ، ولا بمعنى «صَيَّرَ » ، وإنما هي بمعنى : «مَا سَنَّ ولا شَرَعَ » ،

قال ( ص ) : { مَّا جَعَلَ } : ذَهَبَ ابن عطيةَ ، والزمخشريُّ ، إلى أنها بمعنى : «شَرَعَ » ، قال ابن عطيَّة : ولا تكونُ بمعنى «خلق » ، لأن اللَّه تعالى خَلَقَ هذه الأشياء كلَّها ، ولا بمعنى «صيَّر » ، لعدم المفعولِ الثاني ، قال أبو حيَّان : ولم يذكر النحويُّون لها هذا ، وقد جاء حَذْفُ أحد مفعولَيْ «ظَنَّ » وأخواتِها قليلاً ، فتحمل هذه على حَذْفِ المفعولِ الثانيِ ، أي : ما صَيَّر اللَّه { بحيرةً ولا سائبةً ولا وصيلةً ولا حام } مشروعاً ، وهو أولى من إثبات معنًى لم يُسْمَعْ فيها ، وذكر أبو البقاء ، أنها هنا بمعنى «سَمَّى » ، انتهى .

قُلْتُ : وحاصل كلامِ أبي حيَّان ، أنه شهادةٌ على نفْيٍ ، وعلى تقدير صحَّته ، فيحمل كلام ابن عطيَّة على أنه تفسيرُ معنًى ، لا تفسير إعرابٍ .

و( بحيرة ) : فعليةٌ بمعنى مَفْعُولة ، وبَحَرَ : شَقَّ ، كانوا إذا نُتِجَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ بُطُونٍ ، شَقُّوا أذنها بِنِصْفَيْن طُولاً ، فهي مَبْحُورة ، وتُرِكَتْ ترعى ، وتَرِدُ الماء ، ولا ينتفعُ بشيء منْها ، ويحرَّمُ لحْمُها ، إذا ماتَتْ على النساء ، ويُحلَّلُ للرِّجَال ، وذلك كلُّه ضلالٌ ، و( السائبة ) : هي الناقة تسيَّب للآلهة ، والناقةُ أيضاً إذا تابَعَتْ اثنتَيْ عَشْرَةَ إناثاً ليس فيهِنَّ ذكَرٌ سُيِّبَتْ ، وكانت السوائبُ أيضاً في العرب ، كالقُرْبة عند المرَضِ ، يُبْرَأُ منه ، والقُدُوم من السفرِ ، وإذا نزل بأحدهم أمْرٌ يُشْكَرُ اللَّه تعالى عليه ، تقرَّب بأنْ يسيِّب ناقةً ، فلا ينتفعُ منها بِلَبَنٍ ، ولا ظَهْر ، ولا غَيْره ، يَروْنَ ذلك كعِتْقَ بني آدمَ ، ذكَره السُّدِّيُّ وغيره ، وكانَتِ العربُ تعتقدُ أنَّ مَنْ عَرَضَ لهذه النوقِ ، فأخذها أو انتفع منْهَا بشيْءٍ ، فإنه تلحقه عُقُوبةٌ مِنَ اللَّه ، و( الوصيلةُ ) : قال أكثر النَّاس : إن الوصيلَةَ في الغَنَمِ ، قالوا : إذا وَلَدتِ الشاة ثلاثةَ بُطونٍ ، أو خمسةً ، فإن كان آخرها جَدْياً ، ذبحوه لِبَيْت الآلهة ، وإن كان عَنَاقاً ، استحيوها ، وإن كان جَدْيا وعَنَاقا ، استحيوهما ، وقالوا : هذه العنَاقُ وَصَلَتْ أخاهَا ، فمنعتْهُ مِنْ أنْ يُذْبَحَ ، وعلى أن الوَصِيلة في الغَنَم ، جاءت الرِّوايات عن أكثر الناس ، وروي عَنِ ابن المسيَّب ، أن الوصيلة مِنَ الإبل ، وأما ( الحامِي ) ، فإنه الفَحْل من الإبل ، إذا ضَرَبَ في الإبل عشر سنين ، وقيل : إذا وُلِدَ من صُلْبه عَشْرٌ ، وقيل : إذا وُلِدَ مِن وَلَدِ ولده ، قالوا : حمى ظهره ، فسيَّبوه ، لا يركب ، ولا يسخَّر في شيء ، وعبارةُ الفَخْر : وقيل : الحامِي الفَحْلُ ، إذا رَكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ ، انتهى . قلتُ : والذي في «البخاريِّ » : و( الحامِ : فحلُ الإبلِ يَضْرِب الضِّرَابَ المعدُودَ ، وإذا قضى ضِرَابه ، وَدَعوهُ للطَّواغيتِ ، وأعْفَوْه من الحمل ، فلم يُحْمَلْ شيءٌ عليه ، وسمَّوْه الحامِيَ ) ، انتهى .