بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

قوله تعالى :

{ مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ }

يعني : ما جعل الله حراماً من بحيرة ، لقولهم : إن الله أمرهم بتحريمها . ونزلت في مشركي العرب ، فكانت الناقة إذا ولدت البطن الخامس ، فإن كان الخامس ذكراً ذبحوه للآلهة ، وكان لحمه للرجال دون النساء ، وإن مات أكله الرجال والنساء . وإن كان الولد الخامس أنثى شَقُّوا أذنها وهي البحيرة ، ثم لا يُجَزّ لها وبر ولا يُذكر عليه اسم الله ، وألبانها للرجال دون النساء . فإذا ماتت اشترك فيها الرجال والنساء . { وَلاَ سَائِبَةٍ } وأما السائبة : فهي الأنثى من الأنعام كلها . إذا قدم الرجل من سفره ، أو برأ من مرضه ، أو بنى بناءً ، سيّب شيئاً من الأنعام للآلهة ، وخرجها من ملكه ، ويسلمها إلى سدنة البيت لآلهتهم ، ولا يركبونها . وكان صوفها وأولادها للرجال دون النساء . { وَلاَ وَصِيلَةٍ } وأما الوصيلة : فهي من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن . فإن كان الولد السابع جدياً ذبحوه لآلهتهم ، وكان لحمه للرجال دون النساء ؛ وإن كانت عناقاً ، كانوا يستعملونها بمنزلة سائر الغنم . وإن كان جدياً وعناقاً ، قالوا : إن الأخت قد وصلت بأخيها ، فحرمتا جميعاً ، وكانت المنفعة للرجال دون النساء . وإن ماتا تشارك الرجال والنساء .

{ وَلاَ حَامٍ } وأما الحام : فهو الفحل من الإبل إذا ركب ولده . قالوا : قد حمى ظهره فيهمل ، ولا يحمل ، ولا يركب ، ولا يمنع من المياه ، ولا عن المراعي ، فإذا مات أكله الرجال والنساء . وكانوا يقولون : هذه الأشياء كلها من أحكام الله تعالى .

قال الله تعالى : ما حرّم الله هذه الأشياء { ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب } . وروى عبد الرزاق عن معمر عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنِّي أعْرِفُ أوَّلَ مَنْ سَيِّبَ السَّوَائِبِ ، وَأَوَّلَ مَنْ غَيَّرَ عَهْدَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ » قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : « عَمْرُو بْنُ لُحَيِّ أخُو بَنِي كَعْبٍ لَقَدْ رَأَيْتُهُ يَجُرُّ قُصبَهُ فِي النَّارِ يُؤْذِي ريحُهُ أهْلَ النَّارِ ، وَإنِّي لأعْرِفُ مَنْ بَحَّرَ البَحَائِرَ » قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : « رَجُلٌ مِنْ بَنِي مدْلِج كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ ، فَجَدَعَ آذَانَهُما ، وَحَرَّمَ ألْبَانَهُمَا ، ثُمَّ شَرِبَ ألْبَانَهُمَا بَعْدَ ذلك . فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ فِي النَّارِ وَهُوَ وَهُمَا يَعضَّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا ، وَيَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا » ثم قال تعالى : { وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } يعني : ليس لهم عقل يعقلون أن الله هو المحلل والمحرم ، وليس لغيره أن يحل ويحرم .