الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

أخرج البخاري ومسلم وعبد الرزاق وعبد بن حميد والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة . التي يمنع درها للطواغيت ولا يحلها أحد من الناس ، والسائبة : كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء . قال : وقال أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار ، كان أول من سيب السوائب » قال ابن المسيب : والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ثم تثني بعد بأنثى ، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر ، والحامي : فحل الإبل ، يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت واعفوه من الحمل فلم يحمل شيء وسموه الحامي .

وأخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي الأحوص عن أبيه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلقان من الثياب ، فقال لي : هل لك من مال ؟ قلت : نعم . قال : من أي المال ؟ قلت : من كل المال ، من الإبل والغنم والخيل والرقيق . قال : فإذا آتاك الله مالاً فلير عليك ، ثم قال : تنتج إبلك رافية آذانها ؟ قلت : نعم ، وهل تنتج الإبل إلا كذلك ! قال : فلعلك تأخذ موسى قتقطع آذان طائفة منها وتقول : هذه بحر ، وتشق آذان طائفة منها وتقول : هذه الصرم ، قلت : نعم . قال : فلا تفعل ؛ إن كل ما آتاك الله لك حل ، ثم قال { ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام } قال أبو الأحوص : أما البحيرة فهي التي يجدعون آذانها ، فلا تنتفع امرأته ، ولا بناته ، ولا أحد من أهل بيته بصوفها ، ولا أوبارها ، ولا أشعارها ، ولا ألبانها ، فإذا ماتت اشتركوا فيها . وأما السائبة : فهي التي يسيبون لآلهتهم . وأما الوصيلة : فالشاة تلد ستة أبطن وتلد السابع جدياً وعناقاً ، فيقولون : قد وصلت فلا يذبحونها ، ولا تضرب ، ولا تمنع مهما وردت على حوض ، وإذا ماتت كانوا فيها سواء . والحام من الإبل إذا أدرك له عشرة من صلبه كلها تضرب حمى ظهره فسمي الحام ، فلا ينتفع له بوبر ، ولا ينحر ، ولا يركب له ظهر ، فإذا مات كانوا فيه سواء .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : البحيرة . هي الناقة ، إذا أنتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس فإن كان ذكراً ذبحوه فأكله الرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى جدعوا آذانها فقالوا : هذه بحيرة . وأما السائبة : فكانوا يسيبون من أنعامهم لآلهتهم لا يركبون لها ظهراً ، ولا يحلبون لها لبناً ، ولا يجزون لها وبراً ، ولا يحملون عليها شيئاً .

وأما الوصيلة : فالشاة ، إذا أنتجت سبعة أبطن نظروا السابع ، فإن كان ذكراً أو أنثى وهو ميت ، اشترك فيه الرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى استحيوها ، وإن كان ذكراً وأنثى في بطن استحيوهما ، وقالوا : وصلته أخته فحرمته علينا . وأما الحام : فالفحل من الإبل إذا ولد لولده قالوا : حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئاً ، ولا يجزون له وبراً ، ولا يمنعونه من حمى رعي ، ولا من حوض يشرب منه ، وإن كان الحوض لغير صاحبه .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله { ما جعل الله من بحيرة } قال : البحيرة الناقة ، كان الرجل إذا ولدت خمسة فيعمد إلى الخامسة ، فما لم تكن سقياً فيبتك آذانها ، ولا يجز لها وبراً ، ولا يذوق لها لبناً ، فتلك البحيرة { ولا سائبة } كان الرجل يسيب من ماله ما شاء { ولا وصيلة } فهي الشاة إذا ولدت سبعاً عمد إلى السابع ، فإن كان ذكراً ذبح ، وإن كانت أنثى تركت ، وإن كان في بطنها اثنان ذكر وأنثى فولدتهما ، قالوا : وصلت أخاها فيتركان جميعاً لا يذبحان ، فتلك الوصيلة { ولا حام } كان الرجل يكون له الفحل ، فإذا ألقح عشراً قيل : حام فاتركوه .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { ما جعل الله من بحيرة . . . } الآية . قال : البحيرة من الإبل ، كان أهل الجاهلية يحرمون وبرها وظهرها ولحمها ولبنها إلا على الرجال ، فما ولدت من ذكر وأنثى فهو على هيئتها ، فإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكل لحمها ، فإذا ضرب من ولد البحيرة فهو الحامي ، والسائبة من الغنم على نحو ذلك ، إلا أنها ما ولدت من ولد بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها ، فإذا ولدت في السابع ذكراً أو أنثى أو ذكرين ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم ، وإن توأمت أنثى وذكر فهي وصيلة ترك ذبح الذكر بالأنثى ، وإن كانتا أنثيين تركتا .

وأخرج ابن المنذر عن أبي سعيد الخدري قال « صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر ، فاستأخر عن قبلته ، وأعرض بوجهه ، وتعوَّذ بالله ، ثم دنا من قبلته حتى رأيناه يتناول بيده ، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا : يا نبي الله ، لقد صنعت اليوم في صلاتك شيئاً ما كنت تصنعه ! . . قال : نعم ، عرضت عليَّ في مقامي هذا الجنة والنار ، فرأيت في النار ما لا يعلمه إلا الله ، ورأيت فيها الحميرية صاحبة الهرة التي ربطتها فلم تطعمها ، ولم تسقها ، ولم ترسلها فتأكل من خشاش الأرض حتى ماتت في رباطها ، ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ، وهو الذي سيَّب السوائب ، وبحر البحيرة ، ونصب الأوثان وغيَّر دين إسماعيل ، ورأيت فيها عمران الغفاري معه محجنه الذي كان يسرق به الحاج . قال : وسمى لي الرابع فنسيته . ورأيت الجنة فلم أر مثل ما فيها ، فتناولت منها قطفاً لأريكموه فحيل بيني وبينه ، فقال رجل من القوم : كيف تكون الحبة منه ؟ قال : كأعظم دلو فرته أمك قط . قال محمد بن إسحاق : فسألت عن الرابع فقال : هو صاحب ثنيتي رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي نزعهما » .

وأخرج البخاري وابن مردويه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً ، ورأيت عمراً يجر قصبه في النار وهو أول من سيب السوائب » .

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون : يا أكتم ، عرضت عليَّ النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار ، فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به ولا به منك . فقال أكتم : أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا إنك مؤمن وهو كافر ، إنه أول من غيَّر دين إبراهيم ، وبحر البحيرة ، وسيب السائبة ، وحمى الحامي » .

وأخرج أحمد وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن أول من سيب السوائب ، وعبد الأصنام ، أبو خزاعة عمرو بن عامر ، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار » .

وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إني لأعرف أول من سيَّب السوائب ، ونصب النصب ، وأول من غير دين إبراهيم ، قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : عمرو بن لحي ، أخو بني كعب ، لقد رأيته يجر قصبه في النار ، يؤذي أهل النار ريح قصبه ، وإني لأعرف من بحر البحائر . قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : رجل من بني مدلج ، كانت له ناقتان ، فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما ، وقال : هاتان لله ، ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما ، وركب ظهورهما ، قال : فلقد رأيته في النار وهما يقضمانه بأفواههما ويطآنه بأخفافهما » .

وأخرج أحمد والحاكم وصححه عن أبي بن كعب قال : « بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر والناس في الصفوف خلفه ، فرأيناه تناول شيئاً فجعل يتناوله ، فتأخر ، فتأخر الناس ، ثم تأخر الثانية فتأخر الناس ، فقلت : يا رسول الله ، رأيناك صنعت اليوم شيئاً ما كنت تصنعه في الصلاة ؟ فقال : إنه عرضت علي الجنة بما فيها من الزهرة والنضرة ، فتناولت قطفاً من عنبها ، ولو أخذته لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه ، فحيل بيني وبينه ، وعرضت علي النار فلما وجدت سفعتها تأخَّرت عنها ، وأكثر من رأيت فيها النساء إن ائتمن أفشين ، وإن سألن ألحفن ، وإذا سئلن بخلن ، وإذا أعطين لم يشكرن ، ورأيت فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار ، وأشبه من رأيت به معبد بن أكتم الخزاعي ، فقال معبد : يا رسول الله ، أتخشى عليّ من شبهه ؟ قال : لا ، أنت مؤمن وهو كافر ، وهو أول من حمل العرب على عبادة الأصنام » .

وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن قتادة { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } قال : لا يعقلون تحريم الشيطان الذي يحرم عليهم .

وأخرج أبو الشيخ عن محمد بن أبي موسى في الآية قال : الآباء جعلوا هذا وماتوا ، ونشأ الأبناء وظنوا أن الله هو جعل هذا ، فقال الله { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } الآباء فالآباء افتروا على الله الكذب ، والأبناء أكثرهم لا يعقلون ، يظنون الله هو الذي جعله .

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن محمد بن أبي موسى في قوله { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } قال : هم أهل الكتاب { وأكثرهم لا يعقلون } قال : هم أهل الأوثان .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الشعبي في قوله { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون } قال : الذين لا يعقلوهم الأتباع ، وأما الذين افتروا فعقلوا أنهم افتروا .