تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِنۢ بَحِيرَةٖ وَلَا سَآئِبَةٖ وَلَا وَصِيلَةٖ وَلَا حَامٖ وَلَٰكِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَفۡتَرُونَ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَۖ وَأَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡقِلُونَ} (103)

وقوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ }

أي ما جعل الله قربانا مما جعلوا هم لأنهم كانوا يجعلون ما ذكر من البحيرة والسائبة وما ذكر قربانا يتقربون بذلك إلى الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها دون الله ، فقال : ما جعل الله من ذلك شيئا مما جعلتم أنتم من البحيرة و السائبة .

فقوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ } وما ذكر أي ما أمر بذلك ، ولا أذن بها . قيل : حرم أهل الجاهلية هذه الأشياء ؛ منها ما حرموه على نسائهم دون رجالهم ، ومنها ما حرموه على الرجال والنساء ، ومنها ما جعلوه لآلهتهم به .

ثم قيل : البحيرة : ما كانوا يجدعون آذانها ، ويدعونها لآلهتهم . والسائبة : ما كانوا يسيبونها . والوصيلة : ما كانت الناقة إذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن قالوا وصلت أخاها ، فلم يذبحوها ، وتركوها لآلهتهم .

قال أبو عبيدة : البحيرة إذا نتجت خمسة أبطن قطعت آذانها ، وتُركت . والسائبة ولدت خمسة أبطن سيبت ، فلا ترد عن حوض ولا علف . والوصيلة من الغنم إذا ولدت عناقين تُركا ، وإذا ولدت عناقا وجديا قالوا : وصلت العناق الجدي ، وتُرِكا ، وإذا نتجت [ ذكرا ] ذبح ، والحامي إذا بطر إلى عشرة من ولده قيل : حمي ظهره ، فلا يركب ، ولا يحمل عليه شيء .

وقال مجاهد : { ولا حام } إذا ضرب [ الفحل عشرا تركوه ] فهو الحامي ، والحامي اسم . والسائبة من الغنم على نحو ذلك ، إلا أنها [ ما ] ولدت من ولد بينها ستة أولاد كانت على هيئتها ، فإذا ولدت السابع ذكرا أو ذكرين ، نُحِرَ ، فأكله رجالهم دون نسائهم . وإن أتْأَمَتْ بذكر أو أنثى فهي وصيلة ؛ يُترك ذبح الذكر بالأنثى ، وإن كانتا اثنتين تركتا .

وقال القتبي : البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن ، والخامس ذكر ، نحرن فأكله الرجال والنساء . وإن كان الخامس أنثى شقوا أذنها ، وكان حراما على النساء لحمها ولبنها . فإذا ماتت حلت للنساء . والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرضه ، أو بلَّغه منزلة أن يفعل ذلك .

والوصيلة من الغنم : كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا ، فإن كان السابع ذكرا ، ذبح ، فأكل منه الرجال والنساء ، وإن كان أنثى تُركت في الغنم ، وإن [ أَتْأَمت ذكرا أو أنثى ] قالوا : وصلت أخاها فلم يذبح لمكانها ، وكانت لحومها حراما على النساء ، وليست الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منهما شيء ، فيأكله الرجال والنساء .

والحامي الفَحْل إذا رُكب ولدُ ولدِه ، ويقال : إذا نُتِج من صلبه عشرة أبطن قالوا : حُمِيَ ظهره ، ولا يركب ، ولا يمنع من كلإ ولا ماء .

كانوا يحرمون الانتفاع بما ذكرنا ، ويقولون : إن الله حرم ذلك علينا . وهو ما ذكر في آية أخرى : قوله تعالى : { وجعلوا لله ما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا } ( الآية الأنعام : 136 ) يحرمون أشياء على أنفسهم ، ويضيفون تحريمها إلى الله .

ثم سفَّه أحلامهم بقوله تعالى : { ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين }[ الأنعام 143 ] لم يكن تحريمهم هذه الأشياء بالسمع ، ولكن رياء منهم وتنجؤٌ . واحتج الله عليه على ذلك الوجه ليظهر فساد قولهم من الوجه الذي ادعوا ، فقال : { قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين } فإن قالوا : الذكرين فقد كان من الذكر ما لم يحرم . فإن قالوا : أنثى فقد كان من الأنثى لم يكن فيها تحريم . ففيه دليل أن الحكم إذا كان بعلة يجب وجوب ذلك الحكم ما كانت تلك العلة قائمة ، والله أعلم .