قوله تعالى : { إنما يتذكر أولو الألباب قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم } بطاعته واجتناب معاصيه . { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } أي : آمنوا وأحسنوا العمل ، " حسنة " يعني الجنة ، قال مقاتل . وقال السدي : " في هذه الدنيا حسنة " يعني : الصحة والعافية . { وأرض الله واسعة } قال ابن عباس ، يعني ارتحلوا من مكة . وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي ، وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة ، وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي ببلدة فليهرب منها إلى غيرها . { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } الذين صبروا على دينهم ، فلم يتركوه للأذى . وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه ، حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء ، وصبروا وهاجروا . قال علي رضي الله عنه : كل مطيع يكال له كيلاً ويوزن له وزناً إلا الصابرون ، فإنه يحثى لهم حثياً ، ويروى : " يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم الميزان ، ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صباً بغير حساب " ، قال الله تعالى :{ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب أهل البلاء من الفضل .
{ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } :
أي : قل مناديا لأشرف الخلق ، وهم المؤمنون ، آمرا لهم بأفضل الأوامر ، وهي التقوى ، ذاكرا لهم السبب الموجب للتقوى ، وهو ربوبية اللّه لهم وإنعامه عليهم ، المقتضي ذلك منهم أن يتقوه ، ومن ذلك ما مَنَّ اللّه عليهم به من الإيمان فإنه موجب للتقوى ، كما تقول : أيها الكريم تصدق ، وأيها الشجاع قاتل .
وذكر لهم الثواب المنشط في الدنيا فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا } بعبادة ربهم { حَسَنَة } ورزق واسع ، ونفس مطمئنة ، وقلب منشرح ، كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً }
{ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } إذا منعتم من عبادته في أرض ، فهاجروا إلى غيرها ، تعبدون فيها ربكم ، وتتمكنون من إقامة دينكم .
ولما قال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } كان لبعض النفوس مجال في هذا الموضع ، وهو أن النص عام ، أنه كل من أحسن فله في الدنيا حسنة ، فما بال من آمن في أرض يضطهد فيها ويمتهن ، لا يحصل له ذلك ، دفع هذا الظن بقوله : { وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } وهنا بشارة نص عليها النبي صلى اللّه عليه وسلم ، بقوله ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر اللّه وهم على ذلك ) تشير إليه هذه الآية ، وترمي إليه من قريب ، وهو أنه تعالى أخبر أن أرضه واسعة ، فمهما منعتم من عبادته في موضع فهاجروا إلى غيرها ، وهذا عام في كل زمان ومكان ، فلا بد أن يكون لكل مهاجر ، ملجأ من المسلمين يلجأ إليه ، وموضع يتمكن من إقامة دينه فيه .
{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وهذا عام في جميع أنواع الصبر ، الصبر على أقدار اللّه المؤلمة فلا يتسخطها ، والصبر عن معاصيه فلا يرتكبها ، والصبر على طاعته حتى يؤديها ، فوعد اللّه الصابرين أجرهم بغير حساب ، أي : بغير حد ولا عد ولا مقدار ، وما ذاك إلا لفضيلة الصبر ومحله عند اللّه ، وأنه معين على كل الأمور .
{ قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } بلزوم طاعته . { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } أي للذين أحسنوا بالطاعات في الدنيا مثوبة حسنة في الآخرة . وقيل معناه للذين أحسنوا حسنة في الدنيا هي الصحة والعافية ، وفي هذه بيان لمكان { حسنة } . { وأرض الله واسعة } فمن تعسر عليه التوفر على الإحسان في وطنه فليهاجر إلى حيث يتمكن منه . { إنما يوفي الصابرون } على مشاق الطاعات من احتمال البلاء ومهاجرة الأوطان لها . { أجرهم بغير حساب } أجرا لا يهتدي إليه حساب الحساب ، وفي الحديث إنه " ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون بها أجورهم ، ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صبا حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل " .
وقرأ جمهور القراء : «قل يا عبادي » بفتح الياء . وقرأ أبو عمرو وعاصم والأعمش : «يا عبادي » بياء ساكنة . وقرأ أبو عمرو أيضاً وعاصم والأعمش وابن كثير : «يا عباد » بغير ياء في الوصل .
ويروى أن هذه الآية نزلت في جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة . ووعد تعالى بقوله : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } ويحتمل أن يكون قوله : { في هذه الدنيا } ، متعلقاً ب { أحسنوا } ، فكأنه يريد أن الذين يحسنون في الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة والنعيم ، قاله مقاتل ، ويحتمل أن يريد : أن الذين يحسنون لهم حسنة في الدنيا وهي العاقبة والظهور وولاية الله تعالى ، قاله السدي . وكان قياس قوله أن يكون في هذه الدنيا متأخراً ويجوز تقديمه ، والأول أرجح أن الحسنة هي في الآخرة . { وأرض الله } يريد بها البلاد المجاورة التي تقتضيها القصة التي في الكلام فيها ، وهذا حض على الهجرة ، ولذلك وصف الله الأرض بالسعة . وقال قوم : أراد ب «الأرض » هنا الجنة ، وفي هذا القول تحكم لا دليل عليه .
ثم وعد تعالى على الصبر على المكاره والخروج عن الوطن ونصرة الدين وجميع الطاعات : بأن الأجر يوفى { بغير حساب } ، وهذا يحتمل معنيين ، أحدهما : أن الصابر يوفى أجره ثم لا يحاسب عن نعيم ولا يتابع بذنوب ، فيقع { الصابرون } في هذه الآية على الجماعة التي ذكرها النبي عليه السلام أنها تدخل الجنة دون حساب في قوله : «يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب هم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون وجوههم على صورة القمر ليلة البدر » الحديث على اختلاف ترتيباته . والمعنى الثاني : أن أجور الصابرين توفى بغير حصر ولا وعد ، بل جزافاً ، وهذه استعارة للكثرة التي لا تحصى ، ومنه قول الشاعر [ طويس المغني ] : [ الكامل ]
ما تمنعي يقضى فقد تعطينه*** في النوم غير مسرد محسوب
وإلى هذا التأويل ذهب جمهور المفسرين حتى قال قتادة : ليس ثم والله مكيال ولا ميزان ، وفي بعض الحديث أنه لما نزلت : { والله يضاعف لمن يشاء } البقرة : 261 ، قال النبي عليه السلام : اللهم زد أمتي فنزلت بعد ذلك : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } [ البقرة : 245 ] ، فقال : اللهم زد أمتي حتى أنزلت : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } فقال : رضيت يا رب .
لما أجري الثناء على المؤمنين بإقبالهم على عبادة الله في أشدّ الآناء وبشدة مراقبتهم إياه بالخوف والرجاء وبتمييزهم بصفة العلم والعقل والتذكر ، بخلاف حال المشركين في ذلك كله ، أُتبع ذلك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإِقبال على خطابهم للاستزادة من ثباتهم ورباطة جأشهم ، والتقديرُ : قل للمؤمنين ، بقرينة قوله : { ياعِبَادِ الذين ءَامنُوا } الخ .
وابتداء الكلام بالأمر بالقول للوجه الذي تقدم في نظيره آنفاً ، وابتداء المقول بالنداء وبوصف العبودية المضاف إلى ضمير الله تعالى ، كل ذلك يؤذن بالاهتمام بما سيقال وبأنه سيقال لهم عن ربهم ، وهذا وضعٌ لهم في مقام المخاطبة من الله وهي درجة عظيمة . وحذفت ياء المتكلم المضاف إليها { عباد } وهو استعمال كثير في المنادَى المضاف إلى ياء المتكلم .
وقرأه العشرة { يَاعِبادِ } بدون ياء في الوصل والوقف كما في « إبراز المعاني » لأبي شامة وكما في « الدرة المضيئة » في القراءات الثلاث المتممة للعشر لعلي الضباع المصري ، بخلاف قوله تعالى : { قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر : 53 ] الآتي في هذه السورة ، فالمخالفة بينهما مجرد تفنن . وقد يوجه هذا التخالف بأن المخاطبين في هذه الآية هم عباد الله المتقون ، فانتسابهم إلى الله مقرر فاستُغني عن إظهار ضمير الجلالة في إضافتهم إليه ، بخلاف الآية الآتية ، فليس في كلمة { يَاعِبَادِ } من هذه الآية إلاَّ وَجه واحد باتفاق العشرة ولذلك كتبها كتّاب المصحف بدون ياء بعد الدال .
وما وقع في « تفسير ابن عطية » من قوله : وقرأ جمهور القراء { قل يا عباديَ } بفتح الياء . وقرأ أبو عمرو أيضاً وعاصم والأعشى وابن كثير { يا عِبَادِ } بغير ياء في الوصل ا ه . سهو ، وإنما اختلف القراء في الآية الآتية { قُل ياعِبَادي الذين أسرفوا على أنفسهم } في هذه السورة [ 53 ] فإنها ثبتت فيه ياء المتكلم فاختلفوا كما سنذكره .
والأمر بالتقوى مراد به الدوام على المأمور به لأنهم متّقون من قبلُ ، وهو يشعر بأنهم قد نزل بهم من الأذى في الدين ما يخشى عليهم معه أن يُقصّروا في تقواهم . وهذا الأمر تمهيد لما سيوجه إليهم من أمرهم بالهجرة للسلامة من الأذى في دينهم ، وهو ما عُرض به في قوله تعالى : { وأرْضُ الله واسِعَة } .
وفي استحضارهم بالموصول وصلته إيماء إلى أن تقَرر إيمانهم مما يقتضي التقوى والامتثال للمهاجرة . وجملة { للذين أحسنوا في هذه الدُّنيا حسنةٌ } وما عطف عليها استئناف بياني لأن إيراد الأمر بالتقوى للمتصفين بها يثير سؤال سائل عن المقصود من ذلك الأمر فأريد بيانه بقوله : { أرض الله واسعة ، } ولكن جُعل قوله { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } تمهيداً له لقصد تعجيل التكفل لهم بموافقة الحسنى في هجرتهم . ويجوز أن تكون جملة { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } مسوقة مساق التعليل للأمر بالتقوى الواقع بعدها .
والمراد بالذين أحسنوا : الذين اتقوا الله وهم المؤمنون الموصوفون بما تقدم من قوله : { أمن هو قانت } [ الزمر : 9 ] الآية ، لأن تلك الخصال تدل على الإِحسان المفسر بقول النبي صلى الله عليه وسلم " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك " ، فعدل عن التعبير بضمير الخطاب بأن يقال : لكم في الدنيا حسنة ، إلى الإِتيان باسم الموصول الظاهر وهو { الذين أحسنوا } ليشمل المخاطبين وغيرهم ممن ثبتت له هذه الصلة . وذلك في معنى : اتقوا ربكم لتكونوا محسنين فإن للذين أحسنوا حسنة عظيمة فكونوا منهم . وتقديم المسند في { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنةٌ } للاهتمام بالمحسَن إليهم وأنهم أحرياء بالإِحسان .
والمراد بالحسنة الحالة الحسنة ، واستغني بالوصف عن الموصوف على حد قوله : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } [ البقرة : 201 ] . وقولِه في عكسه { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] . وتوسيط قوله : { في هذه الدنيا } بين { للذين أحسنوا } وبين { حَسَنَةٌ } نظم مما اختص به القرآن في مواقع الكلم لإِكثار المعاني التي يسمح بها النظم ، وهذا من طرق إعجاز القرآن . فيجوز أن يكون قوله : { في هذه الدُّنيا } حالاً من { حَسَنَةٌ } قدم على صاحب الحال للتنبيه من أول الكلام على أنها جزاؤهم في الدنيا ، لقلة خطور ذلك في بالهم ضمن الله لهم تعجيل الجزاء الحسن في الدنيا قبل ثواب الآخرة على نحو ما أثنى على مَن يقول : { ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } . وقد جاء في نظير هذه الجملة في سورة [ النحل : 30 ] قوله : { ولدار الآخرة خير } ، أي خير من أمور الدنيا ، ويكون الاقتصار على حسنة الدنيا في هذه الآية لأنها مسوقة لتثبيت المسلمين على ما يلاقونه من الأذى ، ولأمرهم بالهجرة عن دار الشرك والفتنة في الدين ، فأما ثواب الآخرة فأمر مقرر عندهم من قبل ومومىً إليه بقوله بعده : إنما يوفَّى الصابِرُون أجرهم بغير حسابٍ } أي يوفون أجرهم في الآخرة . قال السدّي : الحسنة في الدنيا الصحة والعافية . ويجوز أن يكون قوله : « في الدنيا » متعلقاً بفعل { أحسنوا } على أنه ظرف لغوي ، أي فعلوا الحسنات في الدنيا فيكون المقصود التنبيه على المبادرة بالحسنات في الحياة الدنيا قبل الفوات والتنبيه على عدم التقصير في ذلك .
وتنوين { حَسَنَةٌ } للتعظيم وهو بالنسبة لحسنة الآخرة للتعظيم الذاتي ، وبالنسبة لحسنة الدنيا تعظيم وصفي ، أي حسنة أعظم من المتعارف ، وأيّاً ما كان فاسم الإِشارة في قوله : { في هذه الدنيا } لتمييز المشار إليه وإحضاره في الأذهان . وعليه فالمراد ب { حَسَنَةٌ } يحتمل حسنة الآخرة ويحتمل حسنة الدنيا ، كما في قوله تعالى : { الذين يقولون ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة } في سورة [ البقرة : 201 ] . وقد تقدم نظير هذه الآية في سورة [ النحل : 30 ] قولُه تعالى : { وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير } ، فألْحِقْ بها ما قُرر هنا .
وعطف عليه { وأرضُ الله واسعةٌ } عطفَ المقصود على التوطئة . وهو خبر مستعمل في التعريض بالحث على الهجرة في الأرض فراراً بدينهم من الفتن بقرينة أن كون الأرض واسعةً أمر معلوم لا يتعلق الغرض بإفادته وإنما كني به عن لازم معناه ، كما قال إياس بن قبيصة الطائي :
ألم تر أن الأرض رحْب فسيحة *** فَهَلْ تعجزنِّي بقعة من بقاعها
والوجه أن تكون جملة { وأرضُ الله واسِعةٌ } معترضة والواو اعتراضية لأن تلك الجملة جرت مجرى المثل .
والمعنى : إن الله وعدهم أن يلاقوا حسنة إذا هم هاجروا من ديار الشرك . وليس حسن العيش ولا ضده مقصوراً على مكان معين وقد وقع التصريح بما كني عنه هنا في قوله تعالى : { قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } [ النساء : 97 ] .
والمراد : الإِيماء إلى الهجرة إلى الحَبَشَة . قال ابن عباس في قوله تعالى : { قُلْ يا عِبادِ الذين ءَامنُوا اتَّقوا ربَّكُم } يريد جعفرَ بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة . ونكتة الكناية هنا إلقاء الإِشارة إليهم بلطف وتأنيس دون صريح الأمر لما في مفارقة الأوطان من الغمّ على النفس ، وأما الآية التي في سورة النساء فإنها حكاية توبيخ الملائكة لمن لم يهاجروا .
وموقع جملة { إنما يُوفَّى الصَّابِرون أجرهم بغيرِ حسابٍ } موقع التذييل لجملة { للذين أحْسَنُوا } وما عطف عليها لأن مفارقة الوطن والتغرب والسفر مشاق لا يستطيعها إلا صابر ، فذُيّل الأمر به بتعظيم أجر الصابرين ليكون إعلاماً للمخاطبين بأن أجرهم على ذلك عظيم لأنهم حينئذٍ من الصابرين الذين أجرهم بغير حساب .
والصبر : سكون النفس عند حلول الآلام والمصائب بأن لا تضجر ولا تضطرب لذلك ، وتقدم عند قوله تعالى : { وبشر الصابرين } في سورة [ البقرة : 155 ] . وصيغة العموم في قوله : { الصابرين } تشمل كل من صبر على مشقة في القيام بواجبات الدين وامتثال المأمورات واجتناب المنهيات ، ومراتب هذا الصبر متفاوتة وبقدرها يتفاوت الأجر .
والتوفية : إعطاء الشيء وافياً ، أي تاماً . والأجر : الثواب في الآخرة كما هو مصطلح القرآن .
وقوله : { بِغَيرِ حسابٍ } كناية عن الوفرة والتعظيم لأن الشيء الكثير لا يُتصدى لعدِّه ، والشيء العظيم لا يحاط بمقداره فإن الإِحاطة بالمقدار ضرب من الحساب وذلك شأن ثواب الآخرة الذي لا يخطر على قلب بشر .
وفي ذكر التوفية وإضافة الأجر إلى ضميرهم تأنيس لهم بأنهم استحقوا ذلك لا منة عليهم فيه وإن كانت المنة لله على كل حال على نحو قوله تعالى : { لهم أجر غير ممنون } [ الانشقاق : 25 ] .
والحصر المستفاد من { إنما } منصبّ على القيد وهو { بِغيرِ حسابٍ } والمعنى : ما يوفي الصابرون أجرهم إلا بِغير حساب ، وهو قصر قلب مبنيّ على قلب ظن الصَابرين أن أجر صبرهم بمقدار صبرهم ، أي أن أجرهم لا يزيد على مقدار مشقة صبرهم .
والهجرة إلى الحبشة كانت سنة خمس قبل الهجرة إلى المدينة . وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى ما يصيب أصحابه من البلاء وأن عمه أبا طالب كان يمنع ابن أخيه من أضرار المشركين ولا يقدر أن يمنع أصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملِكاً لا يُظلَم عنده أحد حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه » ، فخرج معظم المسلمين مخافة الفتنة فخرج ثلاثة وثمانون رجلاً وتسع عشرة امرأة سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم صغاراً . وقد كان أبو بكر الصديق استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فأذن له فخرج قاصداً بلاد الحبشة فلقيه ابن الدّغِنَة فَصدّه وجعَلَه في جواره .
ولما تعلقت إرادة الله تعالى بنشر الإِسلام في مكة بين العرب لحكمة اقتضت ذلك وعَذر بعض المؤمنين فيما لقُوه من الأذى في دينهم أذن لهم بالهجرة وكانت حكمته مقتضية بقاء رسوله صلى الله عليه وسلم بين ظهراني المشركين لبثّ دعوة الإِسلام لم يأذن له بالهجرة إلى موطن آخر حتى إذا تم مراد الله من توشج نواة الدين في تلك الأرض التي نشأ فيها رسوله صلى الله عليه وسلم وأصبح انتقال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بلد آخر أسعد بانتشار الإِسلام في الأرض أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة بعد أن هيّأ له بلطفه دخول أهلها في الإِسلام وكل ذلك جرى بقدَر وحكمة ولطف برسوله صلى الله عليه وسلم .