إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (10)

{ قُلْ يا عِبَادِي الذين آمَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ } أُمر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بتذكير المُؤمنين وحملِهم على التَّقوى والطَّاعة إثرَ تخصيص التَّذكُّر بأولي الألباب إيذاناً بأنَّهم هم كما سيصرِّح به أي قُل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريفٌ لهم بإضافتهم إلي ضمير الجلالةِ ومزيدُ اعتناءٍ بشأن المأمور به فإنَّ نقلَ عينِ أمرِ الله أدخلُ في إيجابِ الامتثالِ به . وقولُه تعالى : { للذِينَ أَحْسَنُواْ } تعليلٌ للأمر أو لوجوبِ الامتثال به وإيراد الإحسان في حيِّز الصِّلةِ التَّقوى للإيذانِ بأنَّه من باب الإحسان وأنَّهما مُتلازمانِ وكذا الصَّبرُ كما مرَّ في قوله تعالى : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم محْسِنُونَ }[ سورة النحل ، الآية128 ] وفي قوله تعالى : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لا يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } [ سورة يوسف ، الآية90 ] وقوله تعالى { فِي هذه الدنيا } متعلِّقٌ بأحسنُوا أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ في هذه الدُّنيا على وجه الإخلاصِ وهو الذي عبّر عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حينَ سُئل عن الإحسانِ بقوله عليه السَّلامُ : ( أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكن تراهُ فإنَّه يراكَ ) { حَسَنَةٌ } أي حسنة عظيمةٌ لا يُكْتَنَه كُنْهُها وهي الجنَّةُ . وقيل : هو متعلِّقٌ بحسنة على أنَّه بيان لمكانها أو حالٌ من ضميرها في الظَّرفِ فالمرادُ بها حينئذٍ الصِّحَّةُ والعافيةُ { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } فمن تعسَّر عليه التَّوفرُ على التَّقوى والإحسانِ في وطنِه فليهاجر إلى حيثُ يتمكَّن فيه من ذلك كما هو سُنَّة الأنبياءِ والصَّالحينَ فإنه لا عُذرَ له في التَّفريطِ أصلاً وقوله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون } الخ ترغيب في التَّقوى المأمور بها ، وإيثارُ الصَّابرين على المتَّقين للإيذانِ بأنَّهم حائزونَ لفضيلة الصَّبر كحيازتهم لفضيلةِ الإحسانِ لما أشير إليه من استلزام التَّقوى لهما مع ما فيه من زيادةِ حثَ على المصابرةِ والمجاهدةِ في تحمُّل مشاقَّ المهاجرة ومتاعبها أي إنَّما يوفَّى الذين صبرُوا على دينِهم وحافظُوا على حدودِه ولم يُفرِّطُوا في مُراعاةِ حقوقه لما اعتراهم في ذلك من فُنونِ الآلامِ والبَلاَيا التي من جُملتها مهاجرةُ الأهلِ ومفارقةُ الأوطانِ { أَجْرَهُمْ } بمقابلة ما كابدُوا من الصَّبرِ { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بحيث لا يُحصى ولا يُحصر . عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما : لا يَهتدِي إليه حسابُ الحُسَّاب ، ولا يُعرف . وفي الحديثِ ( أنَّه تنصبُ الموازينُ يوم القيامة لأهلِ الصَّلاة والصَّدقة والحَجِّ فيُؤتَون بها أجورَهم ولا تنُصب لأهل البلاءِ بل يُنصبُّ عليهم الأجرُ صَّباً حتَّى يتمنَّى أهلُ العافيةِ في الدُّنيا أنَّ أجسادَهم تُقرضُ بالمقاريضِ مَّما يذهبُ به أهلُ البلاءِ من الفضلِ )