قوله تعالى : { قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة وأرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ، قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين ، وأمرت لأن أكون أول المسلمين ، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم ، قل الله أعبد مخلصا له ديني ، فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ، لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون }
اعلم أنه تعالى لما بين نفي المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم ، أتبعه بأن أمر رسوله بأن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام :
النوع الأول : قوله : { قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم } والمراد أن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يضموا إلى الإيمان التقوى ، وهذا من أول الدلائل على أن الإيمان يبقى مع المعصية ، قال القاضي : أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم ، لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط ، فيقال له هذا بأن يدل على ضد قولك أولى ، لأنه لما أمر المؤمنين بالتقوى دل ذلك على أنه يبقى مؤمنا مع عدم التقوى ، وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان .
واعلم أنه تعالى لما أمر المؤمنين بالاتقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد ، فقال تعالى : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } فقوله : { في هذه الدنيا } يحتمل أن يكون صلة لقوله : { أحسنوا } أو لحسنة ، فعلى التقدير الأول معناه للذين أحسنوا في هذه الدنيا كلهم حسنة في الآخرة ، وهي دخول الجنة ، والتنكير في قوله : { حسنة } للتعظيم يعني حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها . وأما على التقدير الثاني : فمعناه الذين أحسنوا فلهم في هذه الدنيا حسنة ، والقائلون بهذا القول قالوا هذه الحسنة هي الصحة والعافية ، وأقول الأولى أن تحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية » ومن الناس من قال القول الأول أولى ويدل عليه وجوه الأول : أن التنكير في قوله : { حسنة } يدل على النهاية والجلالة والرفعة ، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا ، فإنها خسيسة ومنقطعة ، وإنما يليق بأحوال الآخرة ، فإنها شريفة وآمنة من الانقضاء والانقراض والثاني : أن ثواب المحسن بالتوحيد والأعمال الصالحة إنما يحصل في الآخرة قال تعالى : { اليوم تجزى كل نفس بما كسبت } وأيضا فنعمة الدنيا من الصحة والأمن والكفاية حاصلة للكفار ، وأيضا فحصولها للكافر أكثر وأتم من حصولها للمؤمن ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » وقال تعالى : { لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون } ، الثالث : أن قوله : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } يفيد الحصر ، بمعنى أنه يفيد أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا ، وهذا باطل . أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحصر ، فكأن حمله على حسنة الآخرة أولى ، ثم قال الله تعالى : { وأرض الله واسعة } وفيه قولان الأول : المراد أنه لا عذر البتة للمقصرين في الإحسان ، حتى إنهم إن اعتلوا بأوطانهم وبلادهم ، وأنهم لا يتمكنون فيها من التوفرة على الإحسان وصرف الهمم إليه ، قل لهم فإن أرض الله واسعة وبلاده كثيرة ، فتحولوا من هذه البلاد إلى بلاد تقدرون فيها على الاشتغال بالطاعات والعبادات ، واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم ، وطاعة إلى طاعتهم ، والمقصود منه الترغيب في الهجرة من مكة إلى المدينة والصبر على مفارقة الوطن ، ونظيره قوله تعالى :
{ قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } والقول الثاني : قال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة ، وذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله ، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة ، وهي الخلود في الجنة ، ثم بين أن أرض الله ، أي جنته واسعة ، لقوله تعالى : { نتبوأ من الجنة حيث نشاء } وقوله تعالى : { وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين } والقول الأول عندي أولى ، لأن قوله : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } لا يليق إلا بالأول ، وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : أما تحقيق الكلام في ماهية الصبر ، فقد ذكرناه في سورة البقرة ، والمراد ههنا بالصابرين الذين صبروا على مفارقة أوطانهم وعشائرهم ، وعلى تجرع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله تعالى .
المسألة الثانية : تسمية المنافع التي وعد الله بها على الصبر بالأجر توهم أن العمل على الثواب ، لأن الأجر هو المستحق ، إلا أنه قامت الدلائل القاهرة على أن العمل ليس عليه الثواب ، فوجب حمل لفظ الأجر على كونه أجرا بحسب الوعد ، لا بحسب الاستحقاق .
المسألة الثالثة : أنه تعالى وصف ذلك الأجر بأنه بغير حساب ، وفيه وجوه الأول : قال الجبائي : المعنى أنهم يعطون ما يستحقون ويزدادون تفضلا فهو بغير حساب ، ولو لم يعطوا إلا المستحق لكان ذلك حسابا ، قال القاضي هذا ليس بصحيح ، لأن الله تعالى وصف الأجر بأنه بغير حساب ، ولو لم يعطوا إلا الأجر المستحق ، والأجر غير التفضل الثاني : أن الثواب له صفات ثلاثة أحدها : أنها تكون دائمة الأجر لهم ، وقوله : { بغير حساب } معناه بغير نهاية ، لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناه ، فما لا نهاية له كان خارجا عن الحساب وثانيها : أنها تكون منافع كاملة في أنفسها ، وعقل المطيع ما كان يصل إلى كنه ذلك الثواب ، قال صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " وكل ما يشاهدونه من أنواع الثواب وجدوه أزيد مما تصوروه وتوقعوه ، وما لا يتوقعه الإنسان ، فقد يقال إنه ليس في حسابه ، فقوله : { بغير حساب } محمول على هذا المعنى والوجه الثالث : في التأويل أن ثواب أهل البلاء لا يقدر بالميزان والمكيال ، روى صاحب «الكشاف » عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« ينصب الله الموازين يوم القيامة ، فيؤتى أهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل الصدقة فيوفون أجورهم بالموازين ، ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر صبا » قال الله تعالى : { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب } حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض لما به أهل البلاء من الفضل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.