السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (10)

ولما نفى الله تعالى المساواة بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يخاطب المؤمنين فقال سبحانه : { قل } أي : لهم { يا عبادي الذين آمنوا } أي : أوجدوا هذه الحقيقة { اتقوا ربكم } أي : بطاعته واجتناب معاصيه ثم بين تعالى لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد بقوله تعالى : { للذين أحسنوا في هذه الدنيا } أي : بالطاعة { حسنة } أي : في الآخرة وهي الجنة والتنكير في حسنة للتعظيم أي : حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها ، فقوله تعالى : { في هذه الدنيا } متعلق : بأحسنوا وقيل : متعلق { بحسنة } وعلى هذا قال السدي : معناه في هذه الدنيا حسنة يعني الصحة والعافية . قال الرازي : الأولى أن يحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة ليس لها نهاية الأمن والصحة والكفاية » ا ه ورد بأنه يتعين حمله على حسنة الآخرة لأن ذلك حاصل للكفار أكثر من حصوله للمؤمنين كما قال صلى الله عليه وسلم : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » .

واختلف في معنى قوله تعالى : { وأرض الله } أي : الذي له الملك كله والعظمة الشاملة { واسعة } فقال ابن عباس : يعني ارتحلوا من مكة وفيه حث على الهجرة من البلد الذي تظهر فيه المعاصي ونظيره قوله تعالى : { قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } ( النساء : 97 ) وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة . وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي فليهرب ، وقال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة كما قال تعالى : { جنة عرضها السماوات والأرض أُعدّت للمتقين } ( آل عمران : 133 ) { إنما يوفّى } أي : التوفية العظيمة { الصابرون أجرهم } أي : على الطاعات وما يبتلون به ، وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا ومعنى { بغير حساب } أي : بغير نهاية بكيل أو وزن لأن كل شيء داخل تحت الحساب فهو متناهٍ ، فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب . وعن ابن عباس : لا يهتدي إليه حساب الحُسَّاب ولا يعرف . وقال علي كرم الله وجهه ورضي الله تعالى عنه : كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً إلا الصابرين فإنه يحثى لهم حثياً . وروى الشعبي لكن بسند ضعيف عن النبي صلى الله عليه وسلم : «أن الموازين تنصب يوم القيامة لأهل الصلاة والصدقة والحج فيوفون أجورهم ولا ينصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجر صباً حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل » .