فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (10)

{ قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ } لما نفى سبحانه المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم ، وبين أنه { إنما يتذكر أولو الألباب } أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه والإيمان به ، والمعنى يا أيها الذين صدقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته واجتناب معاصيه ، وامتثال أوامره وإخلاص الإيمان له ، ونفي الشركاء عنه ، والمراد : قل لهم قولي هذا بعينه ، ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى ، بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد فقال :

{ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا } أي عملوا الأعمال الحسنة { فِي هَذِهِ الدُّنْيَا } على وجه الإخلاص { حَسَنَةٌ } عظيمة وهي الجنة ، وقوله : { فِي هَذِهِ الدُّنْيَا } متعلق بأحسنوا وقيل بحسنة على أنه بيان لمكانها ، فيكون المعنى للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية ، والظفر والغنيمة ، والأول أولى ، ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات ، والإحسان في وطنه أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة فقال :

{ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ } وبلاده كثيرة ، فليهاجر إلى حيث تمكنه طاعة الله والعمل بما أمر به ، والترك لما نهى عنه ، كما هو سنة الأنبياء والصالحين ، فإنه لا عذر له في التفريط أصلا ؛ ومثل ذلك قوله سبحانه { ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها } وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء .

وقيل المراد بالأرض الواسعة هنا أرض الجنة ، رغبهم في سعتها وسعة نعيمها كما في قوله { جنة عرضها السماوات والأرض } والجنة قد تسمى أرضا . قال تعالى { وقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ } والأول أولى .

وقيل ارتحلوا من مكة وتحولوا إلى بلاد أخر ؛ واقتدوا بالأنبياء والصالحين في مهاجرتهم إلى غير بلادهم ، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم وطاعة إلى طاعتهم ؛ وفيه حث على الهجرة من البلد الذي يظهر فيه المعاصي وقيل من أمر بالمعاصي في بلد فليهرب منهم ثم لما بين سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا ؛ وكان لابد في ذلك من الصبر على فعل الطاعة ؛ وعلى كف النفس عن الشهوات ، أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره فقال :

{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ } على مفارقة أوطانهم وعشائرهم وعلى غيرها من تجرع الغصص ، واحتمال البلايا في طاعة الله : بزيادة { أَجْرَهُمْ } في مقابلة صبرهم وما كابدوه من العسر { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بما لا يقدر على حصره حاصر ولا يستطيع حسبانه حاسب وإن كان معلوما محصيا عند الله .

قال عطاء : بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف . وقال مقاتل أجرهم الجنة وأرزاقهم فيها بغير حساب .

وقيل قوله إنما يوفى الصابرون ترغيب في التقوى المأمور بها . وإيثار الصابرين على المتقين للإيذان بأنهم حائزون لفضيلة الصبر ، كحيازتهم لفضيلة الإحسان لما أشير إليه من استلزام التقوى لهما مع ما فيه من زيادة حث على المصابرة والمجاهدة في تحمل مشاق الهجرة .

والحاصل أن الآية تدل على أن ثواب الصابرين وأجرهم لا نهاية له لأن كل شيء يدخل تحت الحساب فهو متناه ، وما كان لا يدخل تحت الحساب فهو غير متناه ، وهذه فضيلة عظيمة ، ومثوبة جليلة ، تقتضي من كل راغب في ثواب الله ، وطامع فيما عنده من الخير أن يتوفر على الصبر ويزم نفسه بزمامه ، ويقيدها بقيده ، فإن الجزع لا يرد قضاء قد نزل ، ولا يجلب خيرا قد سلب ، ولا يدفع مكروها قد وقع ، وإذا تصور العاقل هذا حق تصور ، وتعقله حق تعقله ، علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم ، وظفر بهذا الخير الخطير ، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى . ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، فضم إلى مصيبته مصيبة أخرى ولم يظفر بغير الجزع ، وما أحسن قول من قال :

أرى الصبر محمودا وعنه مذاهب *** فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب

هناك يحق الصبر والصبر واجب *** وما كان منه للضرورة أوجب .

قال علي بن أبي طالب : كل مطيع يكال له كيلا ويزن له وزنا إلا الصابرين ، فإنه يحثى لهم حثيا ، وروي أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ، ولا ينشر لهم ديوان ، ويصب عليهم الأجر حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا لو أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ، لما يذهب به أهل البلاء من الفضل ،