اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (10)

قوله : { قُلْ يا عباد الذين آمَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ } أي بطاعته ، واجتناب معاصيه . قال القاضي أمرهم بالتقوى لكي لا يحبطوا إيمانهم بأعمالهم لأن عند الاتقاء من الكبائر يسلم لهم الثواب وبالإقدام عليها يحبط .

فيقال له : هذا بأن يدل على ضد قولك أولى لأنه أمر المؤمنين بالتقوى فدل ذلك على أنه يبقى مؤمناً مع عدم التقوى ، وذلك يدل على أن الفسق لا يزيل الإيمان .

واعلم أنه تعالى لما أمرَ المؤمنين بالاتِّقاء بين لهم ما في هذا الاتقاء من الفوائد فقال : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } .

قوله : { فِي هذه الدنيا } يجوز أن يتعلق بالفعل قبله ، وحذفت صفة «حَسَنَة » إذ المعنى حَسَنَةٌ عظيمة لأنه لا يوعد من عمل حسنة في الدنيا حسنة مطلقاً بل مقيدة بالعِظَم ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «حَسَنَة » كانت صفة لها فلما تقدمت بَقِيَتْ حَالاً .

فصل :

قوله : { فِي هذه الدنيا } يحتمل أن يكون صلة لقوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ } أي آمنوا وأَحْسَنُوا العمل في الدنيا حسنة في الآخرة وهي دخول الجنة ، والتنكير في «حسنة » للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنه كمالها ، قاله مقاتل . ويحتمل أن يكون صلة لقوله : «حَسَنَة » . وعلى هذا قال السدي : معناه في هذه الدنيا حسنة يريد الصحة . قال ابن الخطيب : الأولى أن يحمل على الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم : «ثَلاثَةٌ لَيْسَ لَهَا نِهَايةٌ الأَمْنُ والصِّحَّةُ والكِفَايَةُ » وقال بعضهم : الأول أولى لوجوه :

أحدها : أن التنكير يفيد النهاية في التعظيم والرفعة ، وذلك لا يليق بأحوال الدنيا لأنها خَسيسةٌ منقطعة وإنما يليق بأحوال الآخرة .

وثانيها : أن الثوابَ للتوحيد والأعمال الصالحة إنما يَحصل في الآخرة ، وأما الأمن والصحة والكفاية فحاصل للكفار أكثر من حصولها للمؤمنين كما قال - عليه ( الصلاة و ) السلام : - «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ » . وقال تعالى : { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ } [ الزخرف : 33 ] .

وثالثها : قوله : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } يفيد الحصر ، ومعناه أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا وهذا باطل . أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحَصْرُ فكان حمله على حسنة الآخرة أولى .

قوله : { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } قال ابن عباس : يعني ارتحلوا من مكة ، وفيه حَثٌّ على الهجرة من البلد الَّذِي يظهر فيه المعاصي ، ونظيره قوله تعالى : { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } [ النساء : 97 ] .

وقيل : نزلت في مهاجري الحبشة ، وقال سعيد بن جبير : من أمر بالمعاصي فليهربْ ، وقال أبو مسلم : لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة ؛ لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله ، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ، ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة كقوله تعالى :

{ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ } [ الزمر : 74 ] وقوله تعالى : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] . قال ابن الخطيب : والأول عندي أولى لأن قوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } لا يليق إلا بالأول .

قوله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى ، وقيل : نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا . قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير نهاية ؛ لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناهٍ فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب قال عليٌّ- رضي الله عنه- : كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً إلا الصابرين فإنه يُحْثَى لهم حثياً ، يروى : أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزانٌ ولا ينشر لهم ديوانٌ ويُصَبّ عليهم الأجر صَبًّا قال الله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما ذهب به أَهل البلاء من الفضل .