نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (10)

ولما ثبت أن القانت خير ، وكان المخالف له كثيراً ، وكان أعظم حامل له على القنوت التقوى ، وكانت كثرة المخالف أعظم مزلزل ، وكان الإنسان - لما له من النقصان - أحوج شيء إلى التثبيت ، وكان التثبيت من المجانس ، والتأنيس من المشاكل أسكن للقلب وأشرح للصدر ، أمر أكمل الخلق وأحسنهم ملاطفة بتثبيتهم فقال : { قل } ولما كان الثبات لا يرسخ مع كثرة المخالف ، وتوالي الزلزال والمتالف ، إلا إذ كان عن الملك ، جعل ذلك عنه سبحانه ليجتمع عليه الخالق والأقرب إليه من الخلائق ، فقال : { يا عباد } دون أن يقول : يا عباد الله ، مثلاً تذكيراً لهم تسكيناً لقلوبهم بما علم من أن التقدير . قال الله ، وتشريفاً لهم بالإضافة إليه بالضمير الدال على اللطف وشدة الخصوصية ، وإعلاماً لهم بأنه حاضر لا يغيب عنهم بوجه : { الذين آمنوا } أي أوجدوا هذه الحقيقة ولو على أدنى حالاتها .

ولما كان الإحسان ربما جراً على المحسن ، أشار سبحانه إلى سداد قول العارفين " اجلس على البساط وإياك والانبساط " ونبه بلفت القول عن مظهر التكلم إلى الوصف بما يدل على أن العاقل من أوجب له الإحسان إجلالاً وإكباراً ، وأثمر له العطف والتقريب ذلاًّ في نفسه وصغاراً ، وخوفاً وانكساراً ، مما أقله قطع الإحسان فقال : { اتقوا ربكم } أي اجعلوا بينكم وبين غضب المحسن إليكم وقاية بأن تترقوا في درجات طاعته مخلصين له كما خلقكم لكم لا لغرض له ليرسخ إيمانكم ويقوي إحسانكم ، وهذا أدل دليل على أن الإيمان يكون مع عدم التقوى .

ولما أرشدهم بالاسم الناظر إلى الإحسان إلى أن يقولوا : فما لنا إن فعلنا ؟ قال مجيباً معللاً : { للذين أحسنوا } أي لكم ، ولكنه أظهر الوصف الدال على سبب جزائهم تشويقاً إلى الازدياد منه ، ولما كان العمل لا ينفع إلا في دار التكليف قال : { في هذه } باسم الإشارة زيادة في التعيين { الدنيا } أي الدنية الوضرة التي لا تطهر الحياة فيها إلا بالتقديس بعبادة الخالق والتخلق بأوصافه { حسنة } أي عظيمة في الدنيا بالنصر والمعونة مع كثرة المخالف وفي الآخرة بالثواب ، ويجوز أن يكون معنى { أحسنوا } أوقعوا الإحسان ، ومعلوم أنه في هذه الدنيا ، فيكون ما بعده مبتدأ وخبراً ، لكنه يصير خاصاً بثواب الدنيا ، فالأول حسن .

ولما كان ربما عرض للإنسان في أرض من يمنعه الإحسان ، ويحمله على العصيان ، حث سبحانه على الهجرة إلى حيث يزول عنه ذلك المانع ، تنبيهاً على أن مثل هذا ليس عذراً في التقصير كما قيل :

وإذا نبا بك منزل فتحول *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فقال : { وأرض الله } أي الذي له الملك كله والعظمة الشاملة { واسعة } ووجوده بعلمه وقدرته في كل أرض على حد سواء ، فالمتقيد بمكان منها ضعيف العزم واهن اليقين ، فلا عذر للمفرط في الإحسان بعدم الهجرة .

ولما كان الصبر على هجرة الوطن ولا سيما إن كان ثّم أهل وعشيرة شديداً جداً ، ذكر ما للصابر على ذلك لمن تشوف إلى السؤال عنه فقال : { إنما يوفى } أي التوفية العظمية { الصابرون } أي على ما تكرهه النفوس في مخالفة الهوى واتباع أوامر الملك الأعلى من الهجرة وغيرها { أجرهم بغير حساب * } أي على وجه من الكثرة لا يمكن في العادة حسبانه ، وذلك لأن الجزاء من جنس العمل ، وكل عمل يمكن عده وحصره إلا الصبر فإنه دائم مع الأنفاس ، وهو معنى من المعاني الباطنة لا يطلع خلق على مقداره في قوته وضعفه وشدته ولينه لأنه مع خفائه يتفاوت مقداره ، وتتعاظم آثاره ، بحسب الهمم في علوها وسفولها ، وسموها ونزولها ، ويجوز أن يكون المعنى أن من كمل صبره بما أشارت إليه لام الكمال - لم يكن عليه حساب ، لما رواه البزار وابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاءت امرأة بها لمم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، ادع الله لي ، قال : " إن شئت دعوت الله فشفاك ، وإن شئت صبرت ولا حساب عليك " ، قالت : بل أصبر ولا حساب علي .