تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (10)

قوله تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ } يحتمل قوله : { اتَّقُوا رَبَّكُمْ } وجوها :

اتقوا سخط ربكم ، أو اتقوا نقمة ربكم ، أو اتقوا مخالفة ربكم ، ونحوه .

وأصل التقى ما به تهلكون ، أي اتقوا مهالككم ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } قال عامة أهل التأويل : { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ } لهم في الآخرة .

وجائز أن يكون لهم الحسنة في الدنيا والآخرة كقوله تعالى : { * وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [ النحل : 30 ] وكقوله عز وجل : { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ } [ النحل : 41 ] .

ثم تحتمل الحسنة وجها آخر هو استغفار الملائكة لهم والأنبياء عليهم السلام لأن الله عز وجل امتحن ملائكته باستغفار المؤمنين والمؤمنات كقوله : { ويستغفرون لمن في الأرض } [ الشورى : 5 ] وكذلك امتحن رسله بالاستغفار للمؤمنين ، وكذلك امتحن المؤمنين ؛ يستغفر بعضهم لبعض ونحوه .

وقوله تعالى : { وأرض الله واسعة } ذكر هذا ، والله أعلم ، لأن من آمن منهم بمكة كانوا يظهرون الموافقة لأعدائهم ، ويقيمون في ما بينهم ، وكانت لهم أسباب التعيش في بلدهم ، ولم يكن لهم تلك في بلد غيرهم ، فخافوا الضياع ، إن هم خرجوا من بلدهم ، فيهاجروا فيها إلى غير بلدهم ، فيمتنعون عن ذلك .

فجاءت الآية على الترجي والإطماع لهم بمثل ذلك التعيش وأسبابه في ذلك البلد ، وهو ما ذكر في آية أخرى ، وهو قوله : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا } [ النساء : 97 ] . لم يعذروا في تركهم الهجرة وإظهارهم الموافقة للأعداء ، ولهم طاقة ووسع التحول من بلدهم إلى بلد غيرهم الآمن ، لم يكن بهم طاقة الخروج من بينهم ، وهم الذين استثناهم ، وهو قوله : { إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان } الآية [ النساء : 98 ] والله أعلم .

وقوله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يحتمل قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بغير تبعة ولا تنويه كقوله صلى الله عليه وسلم : " من نوقش الحساب عذب " [ البخاري 6536 ] .

ويحتمل : { بغير حساب } أي لا يحاسبون لما ليس وراء تلك الدار الآخرة دار أخرى يحاسبون فيها ما أعطوا في الآخرة ، ليست كدار الدنيا يحاسبون ما أوتوا فيها في الآخرة وأما ما أعطوا في الآخرة فلا يحاسبون في غيرها .

ويحتمل : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي غير مقدر بالحساب ، ولكن { يوفى الصابرون أجرهم } أضعافا مضاعفة .

ويحتمل : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي بلا نهاية ولا غاية ، والله أعلم .

ثم الصبر ، هو حبس النفس إما على أداء ما أمر الله به والانتهاء عما نهى الله عنه وإما حبسها وكفها لاحتمال ما حملت من الشدائد والمصائب والمؤن العظام .

احتملوا ذلك ، ولم يجزعوا ، وهو ما ذكر في غير آية من القرآن كقوله تعالى : { ونبلوكم بالشر والخير فتنة } [ الأنبياء : 35 ] ونحوه .