فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قُلۡ يَٰعِبَادِ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمۡۚ لِلَّذِينَ أَحۡسَنُواْ فِي هَٰذِهِ ٱلدُّنۡيَا حَسَنَةٞۗ وَأَرۡضُ ٱللَّهِ وَٰسِعَةٌۗ إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجۡرَهُم بِغَيۡرِ حِسَابٖ} (10)

{ قُلْ يا عِبَادِ الذين ءامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ } لما نفى سبحانه المساواة بين من يعلم ومن لا يعلم ، وبين أنه { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأمر المؤمنين من عباده بالثبات على تقواه والإيمان به . والمعنى : يا أيها الذين صدّقوا بتوحيد الله اتقوا ربكم بطاعته ، واجتناب معاصيه ، وإخلاص الإيمان له ، ونفي الشركاء عنه ، والمراد : قل لهم قولي هذا بعينه . ثم لما أمر الله سبحانه المؤمنين بالتقوى بين لهم ما في هذه التقوى من الفوائد ، فقال : { لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } أي للذين عملوا الأعمال الحسنة في هذه الدنيا على وجه الإخلاص حسنة عظيمة ، وهي الجنة ، وقوله : { فِي هذه الدنيا } متعلق بأحسنوا . وقيل : هو متعلق بحسنة على أنه بيان لمكانها ، فيكون المعنى : للذين أحسنوا في العمل حسنة في الدنيا بالصحة والعافية ، والظفر والغنيمة ، والأوّل أولى . ثم لما كان بعض العباد قد يتعسر عليه فعل الطاعات والإحسان في وطنه ، أرشد الله سبحانه من كان كذلك إلى الهجرة ، فقال : { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } أي فليهاجر إلى حيث يمكنه طاعة الله . والعمل بما أمر به ، والترك لما نهى عنه ، ومثل ذلك قوله سبحانه : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا } [ النساء : 97 ] ، وقد مضى الكلام في الهجرة مستوفى في سورة النساء . وقيل : المراد بالأرض هنا : أرض الجنة ، رغبهم في سعتها ، وسعة نعيمها كما في قوله : { جَنَّةُ عَرْضُهَا السموات والأرض } [ آل عمران : 133 ] ، والأوّل أولى .

ثم لما بيّن سبحانه ما للمحسنين إذا أحسنوا ، وكان لابدّ في ذلك من الصبر على فعل الطاعة ، وعلى كفّ النفس عن الشهوات ، أشار إلى فضيلة الصبر وعظيم مقداره ، فقال : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي يوفيهم الله أجرهم في مقابلة صبرهم بغير حساب ، أي : بما لا يقدر على حصره حاصر ، ولا يستطيع حسبانه حاسب . قال عطاء : بما لا يهتدي إليه عقل ولا وصف . وقال مقاتل : أجرهم الجنة ، وأرزاقهم فيها بغير حساب . والحاصل : أن الآية تدلّ على أن ثواب الصابرين ، وأجرهم لا نهاية له ، لأن كل شيء يدخل تحت الحساب ، فهو متناهٍ ، وما كان لا يدخل تحت الحساب ، فهو غير متناه ، وهذه فضيلة عظيمة ، ومثوبة جليلة تقتضي أن على كل راغب في ثواب الله ، وطامع فيما عنده من الخير ، أن يتوفر على الصبر ، ويزّم نفسه بزمامه ، ويقيدها بقيده ، فإن الجزع لا يردّ قضاء قد نزل ، ولا يجلب خيراً قد سلب ، ولا يدفع مكروهاً قد وقع ، وإذا تصوّر العاقل هذا حقّ تصوره ، وتعقله حقّ تعقله علم أن الصابر على ما نزل به قد فاز بهذا الأجر العظيم ، وظفر بهذا الجزاء الخطير ، وغير الصابر قد نزل به القضاء شاء أم أبى ، ومع ذلك فاته من الأجر ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، فضمّ إلى مصيبته مصيبة أخرى ، ولم يظفر بغير الجزع ، وما أحسن قول من قال :

أرى الصبر محموداً وعنه مذاهب *** فكيف إذا ما لم يكن عنه مذهب

هناك يحق الصبر والصبر واجب *** وما كان منه للضرورة أوجب

/خ12