قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } ، بالحرام ، يعني : بالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة ونحوها ، وقيل : هو العقود الفاسدة .
قوله تعالى : { إلا أن تكون تجارة } ، قرأ أهل الكوفة { تجارة } نصب على خبر كان ، أي : إلا أن تكون الأموال تجارة ، وقر الآخرون بالرفع ، أي : إلا أن تقع تجارة .
قوله تعالى : { عن تراض منكم } ، أي بطيبة نفس كل واحد منكم . وقيل : هو أن يجيز كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع ، فيلزمه وإلا فلهما الخيار ما لم يتفرقا ، لما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ، ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار " . قوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } ، قال أبو عبيدة : أي لا تهلكوها ، كما قال : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } [ البقرة :195 ] وقيل : لا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل ، وقيل : أراد به قتل المسلم نفسه .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا ابن عيينة ، عن أيوب ، عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة ) .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي ، أخبرنا أبو معاذ عبد الرحمن المزني ، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن حماد القاضي ، أنا أبو موسى الزمن ، أنا وهب بن جرير ، أخبرنا أبي قال : سمعت الحسن ، أخبرنا جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( جرح رجل فيمن كان قبلكم ، فألم ألما شديدا ولم يبرأ ، فجزع منه ، فأخذ سكيناً فحز بها يده ، فما رقأ الدم حتى مات ، فقال الله عز وجل : بادرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة ) .
وقال الحسن : { لا تقتلوا أنفسكم } ، يعني : إخوانكم ، أي : لا يقتل بعضكم بعضاً .
قوله تعالى : { إن الله كان بكم رحيماً } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا سليمان بن حرب ، أنا شعبة عن علي بن مدرك قال : سمعت أبا زرعة بن عمرو بن جرير عن جده قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : " استنصت الناس ثم قال : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض " .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا }
ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل ، وهذا يشمل أكلها بالغصوب والسرقات ، وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة . بل لعله يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والإسراف ، لأن هذا من الباطل وليس من الحق .
ثم إنه -لما حرم أكلها بالباطل- أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب الخالية من الموانع ، المشتملة على الشروط من التراضي وغيره .
{ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : لا يقتل بعضكم بعضًا ، ولا يقتل الإنسان نفسه . ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة ، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن صان نفوسكم وأموالكم ، ونهاكم عن إضاعتها وإتلافها ، ورتب على ذلك ما رتبه من الحدود .
وتأمل هذا الإيجاز والجمع في قوله : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ } { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } كيف شمل أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك بعبارة أخصر من قوله : " لا يأكل بعضكم مال بعض " و " لا يقتل بعضكم بعضًا " مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط .
مع أن إضافة الأموال والأنفس إلى عموم المؤمنين فيه دلالة على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد الواحد ، حيث كان الإيمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية .
ولما نهى عن أكل الأموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم ، على الآكل ، ومن أخذ ماله ، أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب والتجارات ، وأنواع الحرف والإجارات ، فقال : { إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أي : فإنها مباحة لكم .
وشرط التراضي -مع كونها تجارة- لدلالة أنه يشترط أن يكون العقد غير عقد ربا لأن الربا ليس من التجارة ، بل مخالف لمقصودها ، وأنه لا بد أن يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختيارًا .
ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما ، لأنه إذا لم يكن كذلك لا يتصور الرضا مقدورًا على تسليمه ، لأن غير المقدور عليه شبيه ببيع القمار ، فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فلا ينفذ عقده .
وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل ، لأن الله شرط الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد . ثم ختم الآية بقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها ونهاكم عن انتهاكها .
{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } بما لم يبحه الشرع كالغصب والربا والقمار . { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } استثناء منقطع أي ، ولكن كون تجارة عن تراض غير منهي عنه ، أو اقصدوا كون تجارة . وعن تراض صفة لتجارة أي تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين ، وتخصيص التجارة من الوجوه التي بها يحل تناول مال الغير ، لأنها أغلب وأرفق لذوي المروءات ، ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا . وقيل : المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله . وبالتجارة صرفه فيما يرضاه . وقرأ الكوفيون { تجارة } بالنصب على كان الناقصة وإضمار الاسم أي إلا أن تكون التجارة أو لجهة تجارة . { ولا تقتلوا أنفسكم } بالبخع كما تفعله جهلة الهند ، أو بإلقاء النفس إلى التهلكة . ويؤيده ما روي : أن عمرو بن العاص تأوله التيمم لخوف البرد فلم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أو بارتكاب ما يؤدي إلى قتلها . أو باقتراف ما يذلها ويرديها فإنه القتل الحقيقي للنفس . وقيل المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم ، فإن المؤمنين كنفس واحدة . جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها استبقاء لهم ريثما تستكمل النفوس ، وتستوفى فضائلها رأفة بهم ورحمة كما أشار إليه بقوله : { إن الله كان بكم رحيما } أي أمر ما أمر ونهى عما نهى لفرط رحمته عليكم . وقيل : معناه إنه كان بكم يا أمة محمد رحيما لما أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس ونهاكم عنه .
هذا استثناء ليس من الأول ، والمعنى : لكن إن كانت تجارة فكلوها{[3968]} .
وقرأ المدنيون وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو : «تجارةٌ » بالرفع على تمام «كان » وأنها بمعنى : وقع ، وقرأت فرقة ، هي الكوفيون حمزة وعاصم والكسائي : «تجارةً » بالنصب على نقصان «كان » ، وهو اختيار أبي عبيد .
قال القاضي أبو محمد : وهما قولان قويان ، إلا أن تمام «كان » يترجح عند بعض ، لأنها صلة «أن » فهي محطوطة عن درجتها إذا كانت سليمة من صلة وغيرها ، وهذا ترجيح ليس بالقوي ولكنه حسن ، و { أن } في موضع نصب ، ومن نصب «تجارة » جعل اسم كان مضمراً ، تقديره الأموال أموال تجارة ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، أو يكون التقدير : إلا أن تكون التجارة تجارة ، ومثل ذلك قول الشاعر : [ الطويل ]
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** إذا كان يوماً ذا كواكبَ أشنعا{[3969]}
أي : إذا كان اليوم يوماً ، والاستثناء منقطع في كل تقدير وفي قراءة الرفع . فأكل الأموال بالتجارة جائز بإجماع الأمّة ، والجمهور على جواز الغبن في التجارة ، مثال ذلك : أن يبيع الرجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة ، فذلك جائز ، ويعضده حديث النبي صلى الله عليه وسلم «لا يبع حاضر لبادٍ »{[3970]} لأنه إنما أراد بذلك أن يبيع البادي باجتهاده ، ولا يمنع الحاضر الحاضر من رزق الله في غبنه ، وقالت فرقة : الغبن إذا تجاوز الثلث مردود ، وإنما أبيح منه المتقارب المتعارف في التجارات ، وأما المتفاحش الفادح فلا ، وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله . و { عن تراض } معناه عن رضا ، إلا أنها جاءت من المفاعلة ، إذ التجارة من اثنين ، واختلف أهل العلم في التراضي ، فقالت طائفة : تمامه وجزمه بافتراق الأبدان بعد عقدة البيع ، أو بأن يقول أحدهما لصاحبه : اختر فيقول : قد اخترت ، وذلك بعد العقدة أيضاً ، فينجزم حينئذ ، هذا هو قول الشافعي وجماعة من الصحابة ، وحجته حديث النبي صلى الله عليه وسلم «البيعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار »{[3971]} وهو حديث ابن عمر وأبي برزة ، ورأيهما - وهما الراويان - أنه افتراق الأبدان .
قال القاضي أبو محمد : والتفرق لا يكون حقيقة إلا بالأبدان ، لأنه من صفات الجواهر ، وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله : تمام التراضي أن يعقد البيع بالألسنة فتنجزم العقدة بذلك ويرتفع الخيار ، وقالا في الحديث المتقدم : إنه التفرق بالقول ، واحتج بعضهم بقوله تعالى : { وإن يتفرقا يغن الله كلاًّ من سعته }{[3972]} فهذه فرقة بالقول لأنها بالطلاق ، قال من احتج للشافعي : بل هي فرقة بالأبدان ، بدليل تثنية الضمير ، والطلاق لا حظّ للمرأة فيه ، وإنما حظها في فرقة البدن التي هي ثمرة الطلاق ، قال الشافعي : ولو كان معنى قوله : يتفرقا بالقول الذي هو العقد لبطلت الفائدة في قوله : البيعان بالخيار ، لأنه لا يشك في أن كل ذي سلعة مخير ما لم يعقد ، فجاء الإخبار لا طائل فيه ، قال من احتجّ لمالك : إنما القصد في الحديث الإخبار عن وجوب ثبوت العقد ، فجاء قوله : البيعان بالخيار توطئة لذلك ، وإن كانت التوطئة معلومة ، فإنها تهيىء النفس لاستشعار ثبوت العقد ولزومها ، واستدل الشافعي بقوله عليه السلام :
«لا يسم الرجل على سوم أخيه ، ولا بيع الرجل على بيع أخيه »{[3973]} فجعلها مرتبتين لأن حالة البيعين بعد العقد قبل التفرق تقتضي أن يفسد مفسد بزيادة في السلعة فيختارربها حل الصفقة الأولى ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك الإفساد ، ألا ترى أنه عليه السلام قال : «لا يخطب الرجل على خطبة أخيه »{[3974]} فهي في درجة ؛ لا يسم ، ولم يقل : لا ينكح على نكاح أخيه لأنه لا درجة بعد عقد النكاح تقتضي تخييراً بإجماع من الأمة ، قال من يحتج لمالك رحمه الله : قوله عليه السلام : لا يسم ولا يبع ، هي درجة واحدة كلها قبل العقد ، وقال : لا بيع تجوزاً في لا يسم ، إذ مآله إلى البيع ، فهي جميعاً بمنزلة قوله : لا يخطب ، والعقد جازم فيهما جميعاً .
قال القاضي أبو محمد : وقوله في الحديث «إلا بيع الخيار » معناه عند المالكين : المتساومان بالخيار ما لم يعقدا ، فإذا عقدا بطل الخيار إلا في بيع الخيار الذي عقد من أوله على خيار مدة ما ، فإنه لا يبطل الخيار فيه ، ومعناه عند الشافعيين : المتبايعان بعد عقدهما مخيران ما داما في مجلسهما ، إلا بيعاً يقول فيه أحدهما لصاحبه اختر فيختار ، فإن الخيار ينقطع بينهما وإن لم يتفرقا ، فإن فرض بيع خيار فالمعنى إلا بيع الخيار فإنه يبقي الخيار بعد التفرق بالأبدان ، وقوله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم } قرأ الحسن «ولا تقتّلوا » على التكثير ، فأجمع المتأولون أن المقصد بهذه الآية النهي عن أن يقتل بعض الناس بعضها ، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل ، أو بأن يحملها على غرر ربما مات منه ، فهذا كله يتناوله النهي ، وقد احتج عمرو بن العاص بهذه الآية حين امتنع من الاغتسال بالماء البارد خوفاً على نفسه منه ، فقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجاجه{[3975]} .